الأحد، 10 أكتوبر 2010

قراءة حول قصة ( القلادة الذهبية ) للقاص الليبي / عبد القادر علي الدرسي




القلادة الذهبية بين تبدل الزمن وتيار الشعور والهم الاجتماعي العربي الواحد
قراءة حول قصة ( القلادة الذهبية ) للقاص الليبي / عبد القادر علي الدرسي


القلادة الذهبية
قصة قصيرة
للقاص الليبي / عبد القادر علي الدرسي

إنه ذلك الكهل الذي عاش على الكفاف من العيشز يحلو أن يجالس المشائخ. يراقب بحدة نظرة الأطفال وهم يلعبون بجانب الحديقة يطاردون الفراشات الزاهية الألوان. كان يتذكر أيام طفولته بغنائهم وألعابهم البريئة، يتذكر والدته وهي تناديهم وتسعد بشقائها لسعادتهم وتلك الابتسامة التي لم يستطع رؤيتها أبداً علي ثغر النساء اليوم. إنها علامة الرضى بالعيش والسعادة مع الفقر، والقناعة مع القلة والهناء والراحة. تذكر ذلك الفارس، وهو يقبل من خلف تلة النصراني كما يطلق عليها أهل النجع لأنه مدفون في ترابها طبيب نصراني كان يعيش في وئام مع أهلها الطيبين. تحسس حنان يده علي كتفه، وقبلته الحارة وخشونة نظراته إليه. لم يعرف كيف تجتمع الخشونة والليونة فيه، لم يعرف إلا عندما رزق بأولاد. وتمر الذكريات في شريط طويل بلا نهاية، لأن الذكريات الجميلة لا تموت. وسط تلك الأجواء وقف عابس الوجه الذي تركت فيه السنين آثارها لا تخطه عين. كان ذهنه يمتلئ بمشاكل اعتاد مخه البسيط علي حملها وطيها في داخله بكبرياء، كان أحدها مشكلة الأثاث، وآه من الأثاث وما يتبعه من هموم ربما تكون صغيرة في عقل الأم المحترمة، لكنها قاهرة في الأب المسكين. إنها تراجيديا مختلفة عما نعرفه، إنها مأساة مجتمع بأكمله. لقد أسماها فلسفة الأثاث ربما مرض عقله من سببها لكنه سليم من وجهة نظره على أقل تقدير. حللها في هذه الأيام في كل بيت تقع فيه فرحة زواج بالنسبة للفتاة التي أصبح وهم العزوبية خيال قاتل لها، ومن ثم تبدأ رحلة العذاب الطويلة والتي تنهك البهيمة فما بالك الإنسان المتقلب دائما مع أهواء المناخ البيئي، يصيبك الذهول من أنواع الأثاث، ذلك فرنسي وآخر إيطالي وذاك نمساوي وآخر أبيض كالثلج وثاني أحمر كجهنم تحرق جيوب الفقراء وثالث أصفر يصيب جيوبك بالغيرة والقهر. تدفعك زوجتك بنظرة من عينياها أن تخرج كل ما في جيبك وتضعها تحت السمع والطاعة وفوقها شيك مصدق بتعاستك وتصرف أموال كل ذلك حتى لا تكسر بخاطر البنت، وآه من البنت فهي حساسة ورقيقة، ولذلك يجب أن نخرج معها أسطول كامل من سيارات الأثاث والمطبخ، ولا تنس صالة استقبال الضيوف، ولا تنس أن تودع ابنتك بابتسامة تفرحها وأنت تبكي من الداخل جراء الديون ونظرات الدائنين لك، تطاردك دنانيرهم في الأحلام والصلاة والأكل حتى في قبرك إن لم تنجو من صياحهم فيك.
كل ما يحتفظ به من أموال بعثرها في أسواق الربا والتجارة الفاسدة، صالونات عربية وأخري إفرنجية، طاقم صيني وياباني للحفاظ علي الصحة، فرش أرضي وآخر سمائي. كثرة حركتك في الأسواق تجعلك خبيراً بكل ما يلزم من حاجات البيت بشرط بدون علم حكام المنزل الذي ليس منهم لأن الله لم يخلقه ناعم.
" الجهاز يا محمد" .. آه من تلك الكلمة، كم كره فقره وتمنى الموت علي فقره البائس. كان يقول لابنته: "لا تخافي أنني أسيطر علي الأمور"، اعتاد علي مشاهدة ابنته وهي تترنم بأهازيج الفرح وتعلو شفتيها الجميلة ابتسامة عذبة ربما هي ملامح بسمة مفقودة لجدتها الراحلة عن حياتنا، ولكن ومع كل ذلك يصبح يومه لا يطاق وهو يسير خلف الجنرال القديم في السوق صباح مساء بجانبه تسأل عن قطع الأثاث الباهظة الثمن بأسلوب تعرفه كل النساء في العالم .. ومع كل ذلك فشلت محاولاته في إيجاد أثاث مناسب بشكل مناسب وهي عبارة حدثه بها أو لعلها متشابها لشيء لم يتذكره جيداً في وسط حيرته وذهوله. غادر المعرض بعد أن ترك لها أحد أبنائه الكبار وقادته قدماه المتعبة إلي منزله القديم الذي قدمته لهم الدولة بعد خروج النصارى، ولم يزيد علي ذلك بل جلس علي أول صخرة صغيرة ملونة مربعة الشكل، ثم أخرج صرة قديمة ملفوفة جيدا ًبخيط رفيع وقديم. كانت قد تكونت في ذهنه أفكار لا رجعة فيها. فك الخيط عن الصرة وأخرج محتواها.
الأولي، كانت ورقة صفراء قديمة باهتة وهي رسالة من تكريم حروفها تنطق الوفاء والكبرياء، قرأ أول كلمة: المجاهد الوفي لقضيته .. أقفل الورقة وكتم حزنه العميق في صدره، هكذا علمه والده أن يشتد عند الشدائد.
الثانية، رصاصة نحاسية يعلوها القدم كان يحتفظ به والده لأنه أصيب بها في أول معركة ضد الاستعمار.
الثالثة، تلك القلادة الذهبية التي كان يرتديها في كل المناسبات الوطنية والدينية بفخر واعتزاز، عند هذا الموقف تمثل له وهو يقف شامخاً في ميدان المعركة يناضل، يقاتل، يرفع سلاحه باعتزاز كبير لأنه صاحب قضية وطنية. تذكر الأشياء .. الوطن، الحق، الشرف، الشجاعة، العدالة، قيم لم يعد لها ثمن. والإنسان أيضاً لم يعد يعرف جوهره .. تثاقلت نفسه في دفعه للنهوض نحو ذلك السوق من جديد الذي يأكل المهمشين فيه بعضهم البعض، لكنه أمام الكبرياء الذي جذبه جذباً من عذابه إلي السير مترنحاً خائفاً. ماذا يقول الناس عنه يبيع شرفه؟ ليس لحما لكي يبيعه، إنها الأزمة !! دق ناقوس الضمير في عقله يلومه يا سيد نفسك وتاريخك بلغت عزك بدماء أجدادك هكذا تفعل بدمهم ؟!.
انتفض وتحسس جسده بعنف وتسأل: أين هي الدماء؟ .. انتبه إلى نظرات الناس المشفقه لعلهم يعتقدون أنه مجنون. كم هو غريب هذا المجتمع الذي يجمع القسوة والرحمة في قلب واحد.

واصل سيره وهو يضغط على تلك القلادة، وكأنه يقاد إلى منصة الإعدام حتى انتهى إلى محل لصياغة وبيع الذهب، وقف أمام الصائغ وحدق فيه طويلاً ثم خطر له خاطر أن يتراجع بل يهرول بعيداً ولكنه تذكر ابتسامة ابنته جعلته يخرج القلادة بسرعة ويضعها أمام الجشع، ثم نظر إليه بانكسار والدموع تتجمع في عينيه وقال له: قلادة من الذهب الخالص للبيع .. للبيع .. ثم أغمي عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القلادة الذهبية بين تبدل الزمن وتيار الشعور والهم الاجتماعي العربي الواحد
قراءة حول قصة ( القلادة الذهبية ) للقاص الليبي / عبد القادر علي الدرسي
خالد جوده أحمد

• يشكل العنوان عتبة العمل الأدبي ، وأداة فنية هامة يوظفها الأديب ( خاصة القاص ) لتخدم أفكاره الرئيسة من موضوعه شريطة إلا تزلق العنوان نحو كشف مرامي العمل الأدبي ( خاصة في القصة القصيرة ) أو يكتسي ثوب المباشرة ، واختيار القاص هنا لعنوان قصته لعنصر رئيس في الحدث ، حيث تمثل القلادة الذهبية التي غطاها التراب معادلا موضوعيا للقيم المنسية والمفقودة ، فبيعها في خاتمة القصة مناظرا لبيع القيم وتبدل الزمان نحو أفاق المادية والضياع ، والمفردات المستخدمة في نسيج العمل تعبر عن تبدل الزمان وتغير أحواله وحالة فقدان القيم ، فتظل هذه الفكرة ملحة وظاهرة للعيان في استخدام تعبيرات من قبيل : تلك الابتسامة التى لم يستطع رؤيتها أبدا علي ثغر النساء اليوم ، ملامح جدتها المفقودة ، ورقة صفراء قديمة ، ثم يركن القاص لاستخدام تعبيرات تفصح تماما عن موضوعه ( قيم لم يعد لها ثمن ) ، وهنا نجد توظيفا للمباشرة في بنيتها المناسبة ، فنجد تعبيرا يصيب الهدف بلا مواربة ( إنها مأساة مجتمع بأكمله ) ، وهنا نجد المزج بين ظلال الضائقة المجتمعية وغياب قيم البطولة والإخلاص علي مستواه السياسي ، وكأنها حلقة واحدة متصلة ، كل عنصرا فيها سببا ونتيجة في آن واحد .
• وبذلك حققت القصة هدفها في فضح السلوك الاجتماعي المعيب والذي لا ينبع من فقر أكثر مما ينبع من أعراف ومواضعات فاسدة دلالة استواء العرب جميعهم في هذا الشأن ، وهنا كما ذكرنا وظف القاص قصته لتمثل ذلك وتعبر عنه ليكون الأدب وسيلة بذلك للتقويم .
• وهذا الأداء الأدبي نحتاجه لأنه يعبر عن قضايانا ومشكلاتنا الاجتماعية خاصة ، حيث نجد أن تناول مشكلات مثل مشكلة غلاء المهور والمبالغة في تكاليف الزواج وانعكاس المشكلة علي حياتنا الاجتماعية والسياسية ، فترصد القصة بوعي أزمة المجتمع العربي وتحولاته بعد اندثار حقبة الاستعمار ، والحقيقة أن الهم العربي جميعه واحدا تستوي في ذلك الدول العربية الفقيرة والغنية ، فأزمة الزواج تطال حتى الدول النفطية في المبالغة في المهور وهدايا الذهب ، ولعل في تراثنا الفكري وأصول الدين أن تلك الأزمة تشكل مفتاحا للشر وفسادا كبيرا ، وهذا التناول الأدبي جيدا في مجاله للتعبير عن هموم الوطن وأزماته الحادة .
• استخدم القاص طريقة الحاكي الغائب الذي ليس عنصرا في الأحداث ، ولكنه راويا غائبا يمتلك ناصية القصة ويشرف عليها من أعلي وهذا يناسب مكان الشاهد علي الأحداث والمنظر لها والشارح لأزمات المجتمع ومتاعب الوطن، والشاهد أيضا عليها أي يحتل موقع الشهادة .
• نجد إيغالا وتعمقا في ذات الشخصية واستبطان شعورها الداخلي ورصدا لأزماتها النفسية الحادة والتي تجتاح بطل الحدث بين الدائنين وواجبات الأبوة وابتسامة الفتاة مما عمق الحدث وأكتسي ثوب الحزن والمأساة .
• نلاحظ أيضا الانتقال من الذاتي إلي العام ، من حيث تعميم الخاص ، والبدء بأزمة شخصية بعد استرجاع حلاوة الماضي ، ومدي افتقاد الحاضر لقيم الزمان المفقود ، والأزمة الشخصية الخاصة بالدائنين وضخامة النفقات والسقوط في حبائل المرابين والدائنين ، وانتهاء بأزمة الوطن جميعه ، والسقوط النهائي للقيم والتي أصبحت معروضة للبيع ، فالجميع هنا يسدد شيك التعاسة الشخصية والأسرة والمجتمع جميعه .
• وبعد فهذا نموذجا أدبيا يعبر عن مشكلة مجتمعاتنا العربية وانتقالها إلي ألوان أخري من المعاناة والمشكلات الاجتماعية الطاحنة ، ولعلها تعبر عن مقولة الكاتب والناقد الليبي / منصور أبو شناف وتؤسس لما قاله عن مشروع مقاومة النسيان ، وأيضا مدار ما ينتقل إليه الأدب الليبي من خطي واثقة واعمال فنية متميزة :
" فإنني أطرح مشروع مقاومة النسيان ، وذلك بالبدء في مراجعة إنتاجنا الثقافي عبر هذا القرن ، إن ( النيهوم ) و ( القويري ) و ( المصراتي ) و ( خشيم ) وغيرهم كثيرون قد أنتجوا كما مهما من الثقافة لم يراجعه لا أجيالهم ولا الأجيال التي تلتهم ، علينا الآن أن نقف لمراجعته واستيعابه بروح موضوعية وبعيدا عن القدح والمدح .. إنها الخطوة الضرورية الأولي لمغادرة هذه المائة عام من العزلة ، إننا وغير هذه المراجعة سندرك ( معني الكيان ) ، و ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تم إلقاء هذه الرؤية في الصالون الأدبى بنادى مدينة السادس من أكتوبر، مقرر اللجنة الثقافية بالنادى حينها هو الشاعر د. بيومى الشيمى - عضو إتحاد كتاب مصر.

kgodaa@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق