الأحد، 30 نوفمبر 2014

ذكاء الحكي والدراسة في منظومة الإنسان والوطن في كتابات هاله فهمي - بقلم: خالد جوده






لا شك أن صورة الكاتب تكون مرسومة بإبداعه، وفي بحثنا القصير الماثل بين أيدي القراء نقدم عملين من أعمال الكاتبة هاله فهمى كدال علي مجمل المنجز الإبداعي للكاتبة والذي تنوع بين الخاطرة والشعر وفنون القصة بأنواعها، والدراسات الأدبية، بنوع من التوسع ضمناً إلي كون الكاتبة مزجت الإبداع بالنشاط الثقافي الكثيف، فهي تقدم نموذجاً للكاتبة الناشطة ثقافياً، علي مجال واسع وبناء. تقنيات الحكى ومفاهيم أدبية بالمجموعة القصصية (الإنسان أصله شجرة) تتنوع قصص مجموعة (الإنسان أصله شجرة) للكاتبة، وتزخر بتقنيات الحكى والتي تجسد خبرة موصولة لدي القاصة، وتثير عدد من المفاهيم الأدبية بداية من قضية النسق القصصي، وقضية النوع الأدبي، والأداء الأدبي عن قضايا الإنسان والوطن، ومعالجات شكلية تتعلق بالإهداء والذي يكون أحيانا في بداية القصة وفي أحيان أخرى في نهاية القصة، وتقطيع القصة أو القصة ذات المقاطع، والعناية البالغة بالمفردات القصصية، والتكثيف اللغوي، وثنائيات التناول بداية لثنائية النماذج الإنسانية والصراع بين الخير والشر، ونهاية بثنائية المعنوي والمادي، مرورا بثنائية الحلم والواقع، وثنائيات أخرى، ودائرية المعني في النص حول الانتقال من الخاص إلي العام، أو السبب والنتيجة، أو الهموم الاجتماعية التي تؤدي عنها هموم سياسية واقتصادية والعكس أيضا فهي دائرة مغلقة، بما يؤكد وجود منظومة الفكر المعبرة عن الوطن من خلال النسيج الفني للقصص، هذا إجمالا عن المجموعة والتالي تفصيل:


بداية نشير لتوصيف المجموعة بشكل مبسط أشرنا فيه لأغلب العناصر الظاهرية المتصلة بنواحي الإهداء والنوع الأدبي والتوثيق والتقطيع القصصي، والموضوعية المتصلة بأداء القصة سواء كأدب مقاومة أو قصة اجتماعية أو قصة نفسية، هذا التنوع والقلق في الانتقال بين قصص ذات مقاطع منوعة، إلي أخرى مرقمة أو مقاطع معنونة بالحروف ..... إلخ يؤكد أن القاصة تنشد أشكال جديدة وتسعي للتطوير والخروج من النسق الثابت وعدم تكرار نفسها قدر الإمكان . ورغم أن قصص المجموعة جميعها يمكن تصنيفها في إطار القصة القصيرة جدا، لكن بعض هذه القصص تصل في إيجازها إلي شكل شديد التكثيف لتصبح مثل الومضة القصصية التي لا تستغرق سوى سطورا قليلة، هذا من ناحية النوع الأدبي، أما من حيث النسق القصصي، فنجد أن القاصة اختارت عنوان إحدى قصص المجموعة لتمهر بها المجموعة ككل، وهذا العنوان يعبر عن الذكاء في اختيار العنوان الجديد الطريف الذي يثير التأمل كما يحمل المعني، إضافة إلي تنوع شكلي ومضموني كبير، ولا شك أن هذا التنوع تأسس عن ذكاء خاص، وقدرة علي الاستفادة من مجموعة خبرات علمية وعملية فطبيعة عمل القاصة كصحفية ومحررة أدبية لباب "نبضات قلب" بجريدة المساء، أضاف تلك اللمسة الإنسانية في القصص إضافة إلي ممارسة الكتابة الإبداعية، وكذا المساهمة في الحياة الثقافية والأدبية بأوفى نصيب كمدير لسلسلة كتاب الجيل الجديد، وعضوية إتحاد كتاب مصر، ومسئولية شعبة القصة وأدب الرحلات بالإتحاد لأكثر من دورة، ونادي القصة، وجمعية حماة اللغة العربية، وجمعية الكاتبات المصريات، كما سافرت للخارج مرات لدول عديدة، وشاركت في عدد وافر من المؤتمرات الأدبية و المتخصصة في القصة و الرواية في كل محافظات الجمهورية، وقامت بالتحكيم في مسابقات القصة بأماكن مختلفة، كما قدمت عدد من المجموعات القصصية ( للنساء حكايات عام 2001م / ربع رجل 2002م / أجنحة البوح مشتركة 1999م / الإنسان أصله شجرة 2005م / وجع دافئ 2007م) ، ولها تحت الطبع إبحار آخر مع عالم الحكى والدراما والخاطرة الأدبية (رجال غالية (رواية) / مكان في القلب (رواية) / ومسرحية الحصان الأسود)، حتى ميدان الابتكار لم تدعه فقدمت دراسة ممتعة بعنوان (في هجاء الزوجات – دراسة في الشعر العربي)، ولها حديث مستقل، أما ميدان النشر الإلكتروني فقد قامت بنشر بعض قصصها عبر شبكة الشبكات، ووجدت تفاعلاً من القراء حولها، والكاتبة تؤيد الأدب الرقمي، وترى فيه وسيلة هامة للتقدم الأدبي تقول: (مع بداية الألفية الثالثة أصبح من لا يتعامل مع الكمبيوتر أشبه بالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وأصبح التعامل مع شبكة الإنترنت شيئا بديهيا، ومثل كل التخصصات، دخل الأدب والأدباء إلى هذه الشبكة الهائلة التي ساعدت في ترويج الكتب وانتشار المبدعين) وبعد هذا التناول لتوصيف المجموعة القصصية من حيث الشكل نشير إلي العناصر التالية عبر النسيج الكلي للكتاب:


إذا كانت المجموعة تقوم علي نسق القصة القصيرة جداً، أو ما يسمي بقصة الومضة، أما كما سماها الناقد الكبير د . محمد حسن عبد الله "قصة الفلاش"، وأيا كانت التسمية، فقد اتفق النقاد حول صعوبة هذا اللون، وأنه يتطلب قدرة علي التكثيف وإبداع المفارقة والترميز، ونجد أن أبرز تلك العناصر في المجموعة الأنسنة، والترميز، والمفارقة. مفردات الأدب وثنائية التناول أدب الكاتبة هالة فهمى يرتكز علي المفارقة بين المفردات المرمزة ، وهذا أيضا يستوجبه القالب الفني باعتبار أن انتقاء المفردة المعبرة والملخصة والمركزة من أدوات القصة القصيرة جدا ، وتنتثر تلك المفردات عبر المجموعة القصصية جميعها وتشكل خريطة غنية جدا علي شكل ثنائيات، تحتاج معها لقراءة تلك المفردات المنوعة لاكتشاف كنهها جميعا وما تؤديه من قيم فنية وموضوعية . تصنيف البشر عبر ثنائيات القصص المجموعة تشريح وتقديم لأنماط البشر (الطيبين والأشرار) في ذكاء قصصي تشرح به القاصة لون من الصراع بين الخير والشر ومن خلال تلك الثنائيات التي تتلاحم في نسيج الحكي الكلى، أهمها ثنائية الخير والشر، والشمس والظلام، والأفعي والبراءة، الثلج واللهب، الحلم والمادة، الشرق والغرب يحوطها جميعا ثنائية التناول الموضوعي في المجموعة القصصية: ثنائية الهم الاجتماعي والهوية الوطنية أول ملمحا ثنائيا يستشعره القارئ للمجموعة والذي يشكل الإطار العام لتلك الثنائيات هو التنوع الموضوعي ليشمل آلام الإنسان وهوية الأوطان، فالجانب الاجتماعي يعضده الجانب الوطني والسياسي، وهي ثنائية متكاملة لأن الأوجاع واحدة. ولنا أن نتناول تلك الرؤية عبر تلك القراءة الإيجابية لبعض قصص المجموعة: رائحة رجل القصة لدي القاصة كما هو مفهومها التقليدي بانتقاء لحظة القصة المناسبة ونشير إلي القول البعيد في الصراحة القصص ملقاة علي قوارع الطرق، لكن عين القاص الطوافة هي التي تقوم بالتقاط تلك اللحظات، أو كما ذكر شقيق القاصة / نعمات البحيري – رائدة أدب المدن الجديدة (وأدبها جميعا يدور في سيرتها ويومياتها الحياتية) عندما داعبها قائلا: ( أنك تأخذين الناس لحما وترميهم قصصا )، بل القاصة نفسها هنا قالت ذلك (أطلقي حاستك كمبدعة وسط آلام الناس، كوني منهم تنفجر عيون الإبداع لديك، لن تعاني حالة الجفاف تلك) وهذا ما أرق وأهم القاصة فنسجته في قصصها جميعها، القصة دائرة في رحاب المترو وتتناول هموم امرأة وحيدة تحاول الوصول لمصدر الأمان أو شبيه منه، رصدت النواحي الاجتماعية في جانبها الأسري، كما رصدت متاعب الناس تقول (ملاحقة الوجوه المتعبة) ، رصدت ملامح الشرود (بشر محملين بالشرود) ، و (عيون الناس السارحة بعيدا)، (الكل مبحر مع أفكاره عبر النوافذ) ، وكان الناس بتلك الحالة يحيون حالة من (التأففات وشذرات الغضب) من نافذة الحلم تطل الأفعى رمزا يتلقاه كل قارئ حسب فهمه وثقافته خاصة إذا تحولت الأفعى السامة لساحرة ذات عينيين نجلاوتين، حبيبها يدفعها دفعا لأن تمتص الأفعى بعض من دمائها، قصة رمزية مكثفة أشد ما يكون التكثيف، تحتمل الشاعرية المفرطة وتتلون بالتناقض ما بين الحب والعذاب، ويظل في القصة التساؤل حول هل هو الحب حين يفقد، أم الخيانة حيت تسري وتمزق؟، أنه أشبه بالكابوس الذي يطل من نافذة الحلم، الأفعى تتمدد بالدموع، والحنان هو ترياق سموم تلك الأفعي السامة، هناك تناص مع فكرة مصاص الدماء الذي لا يحيا سوي بالدماء، هنا نجد قضية المظهر والجوهر، قد يكون المظهر معبرا عن حسناء ساحرة ذات عينين نجلاوتين لكن باطنها الدماء المسكوبة بلا ثمن. أصباغ أهدت القاصة القصة إلي (إلي التي ملأت قلبها بالحقد فلم تنبت شفتاها بسمة حب) وهي المسخ الشائه ذات الأصباغ كالحرباء كل يوم لها لون ليس لونها الحقيقي تصبح بوجه وتمسي بوجه آخر تقترن بالشيطان ينقاد لها (وجودها بجواره يزيد اشتعاله)، ذات ارتباك ولها دموع باردة، وتلك الشخصية المحورية نجد نظير لها في قصة من نافذة الحلم (ترشف دمي ذات الأصباغ والصوت فحيح) تقابلها بنموذج قصصي آخر يمثل البراءة والطفولة وحب الأشياء البسيطة (السعادة يصنعها العطاء)، الموروث الديني يتمثل في قذف الشيطان بالمعوذتين فاحترق لأنه شيطان، أما ذات الأصباغ فانكشفت حقيقتها جنيه ذهب قصة اجتماعية تتناول هما اقتصاديا واجتماعيا عاما، الحوار الداخلي يمثل الحيرة لدي الأب (هل أقول لها الآن ..... أمام عجز أبيها) بصيغة الاعتراف، ثم انتقال ضمير الراوي إلي الراوي الخارجي (خرجت الأنة منه كما لو كان يقول: يا رب)، تعبيرات منحوتة لغويا باداء فائق جميل (تعثرت نظرته فوق نتوءات القلق الرابض في عينيها) ، (يشرب الوجه بسمتها المرتاحة)، القصة إنسانية من المقام الأول وتعزف برفق فوق الجراح الاجتماعية والعلاقات الأسرية مضفرة بهمس شاعري، ولعل هذا يذكرنا بأساطين القصة القصيرة فهم يعزفون برفق علي أغلي المشاعر الإنسانية لذا لم يكن غريبا أن يكون عنوان القصة ومتنها عن الذهب، لكنه ذهب المشاعر والذي استمتعنا ببريقه. طواف ملمح القصة النفسية منسوجة مرة أخري في ثوب قصة قصيرة جدا، التناقض بين العشق والقسوة يدل علي الحب غير المسئول، كما يدل علي عدم الاستواء سواء من الجاني القاسي أو من الضحية، دائما نجد صورة القسوة مجسدة في ارتشاف الدم ورغبة التوحش وتلك مفردات تختال في مجموعة القصص جميعها، القسوة مجسدة في التملك وتأسيس مملكة خاصة تسجن فيها مشاعر الإنسان. القادمون يسرقون الشمس يمكن وضع هذه القصة في خانة (ضد العولمة والغزو الجديد)، فهي قصة سياسية تقدم المغزى من نسيج مفرداتها في لباقة وذكاء بين المصرية الممثلة في الإلماح بأن الشمس ترسل للجيل الناهض مركبا، وكأن القاصة تذكرنا بمركب الشمس، ثم الإلماح الآخر للمصرية من خلال الوجه الأسمر فهي سمرة النيل المحببة، إلماح إلي روحانية الشرق في مقابلة مادية الغرب، فالشرق هو الموطن الأول للشمس القصة ضمن أدب المقاومة الذكي أو الغير مباشر والذي يركن لدراسة الأثر قبل تشريح الواقع بجهامته القاسية في أسلوب خيالي مثير، عنوان القصة يشير للخطر الداهم الذي هو الغزاة الجدد الذين يسرقون الشمس ويتركون الأمم المقهورة في ظلام دامس، رمزية المقاومة تمثلت في الفنان التشكيلي والذي يصرخ كزرقاء اليمامة، وكلماته أزميل يكسر جبل الصمت، رغم المرارة ما زال الأمل المتوهج يبرق بين ثنايا القصة وما زالت الشمس تشرق ونورها يهب الحياة ويأتي بالفجر من رحم الأيام، تعبير يشير نحو أن آلام المخاض تشتد اكثر عندما تستبق الولادة الموعودة كما الليل تشتد ظلمته إذا كاد الفجر أن يبزغ، القصة تتضح رمزيتها من مسيرة المقاومة الظافرة، والتي تعثر علي الحل وتقدم سبل الخلاص من خلال الجيل الجديد. الإنسان أصله شجرة القصة الأم والمعتمدة، ولعل العنوان في غاية الذكاء لطرافته بداية ثم لتعبيره عن النضج الفني بتمثل القيم الإنسانية من العطاء والتضحية وإنسانية الإنسان بين مظهره وجوهره، تناص مع قول الشاعر (كن النخيل يقذفه الناس بالحجر فتهب لهم أطيب الثمر)، تحتاج القصص للقراءة المتأنية واستحلاب ما تضمه من تلك المنظومة من الفكر والفن، القصة تبدأ بثوب واقعي من الحياة وتنصرف لتفاصيل معنوية معبرة بطريقة الكاتبة في تجسيد المعني في إطاره الرمزي، والمضمون يطرح السؤال التالي: كيف نطالب القلوب بالحب في زمن بغيض يأكله الشقاء، كيف لا يتبدل حال الشجرة إذا فقدت موردها من عطاء مماثل من ضوء وري، المعني الإنساني يتجسد عبر (فاقد الشيء لا يعطيه) إذا وجد الإنسان المعطاء كالشجرة جحودا وألما (كيف أسامح والأرض رحم مأجور لا ترغب فينا؟ جف الضرع، نقتات ما بقي من دمها .. تجف، تتشقق كلحاء الشجر) تلك الحوارية الفلسفية بين أصدقاء، تري أن الإنسان هو الشجرة فهو الشجرة التي تبذل حتى الموت النبيل لتبق بقايا جذع، وتصف (إنسان) شجرة أخري ارتدت الهالوك وأقامت الحلم فوق الوهم فلم تثمر شجرتها شيئا، لذلك نذهب وتبق لنا أنصاف أخري من جذوع منحوتة ، ملمحاً إنسانياً معبراً خلاصة: المجموعة القصصية لدي الكاتبة تعبير قصصي ذكي يقتني أدواته، ويسعى للابتكار والتطوير، ويعبر عن الهم الاجتماعي والسياسي في حلقات متصلة تمثل لقطات إنسانية تعبر عن واقعنا المؤلم بتوظيف الفكرة، وانتقاء المفردة المناسبة في عناية ودقة، من خلال نسيج المجموعة المتنوعة وعبر ثلاث أقسام (هن / تشكيل / الفقد)، يغلب عليها نمط القصة القصيرة جدا بعناصرها الكثيرة وأسلوبها المكثف، ومن خلال ثنائيات تتلاحم في نسيج الحكى الكلى، أهمها ثنائية الخير والشر ، والشمس والظلام ، والأفعي والبراءة ، الثلج واللهب ، الحلم والمادة، الشرق والغرب، ولم يكن أدب هالة فهمي كابيا وقاتما، بل كان موظفا بذكاء لابتعاث الأمل، ونهضة الإنسان، ورفعة الوطن، ويدرج بجدارة في إطار أدب المقاومة غير المباشر اجتماعيا وسياسيا، هناك تباين في مجموعة القصص لحد كبير سواء في الأسلوب الفني أو الأداء الموضوعي للقصص، فالشكل يتنوع بين المشهد القصصي والقصة القصيرة جداً، والموضوعات تتناول مشكلات اجتماعية وأزمات نفسية ، ومساحة التنوع تلك تتيح درجة ثراء معتبر يشبه مائدة منوعة تدور بين التشكيل والفقد.


الكاتبة هاله فهمى قدمت الدراسة الأدبية وأبدعت فيها، فالأسلوب تحليلي سلسل، والنتائج مرهونة بمقدماتها، والاستنتاجات صحيحة وأكدتها بالشواهد، فتقرأ الدراسة وتستمتع بها، للتنظيم بها، والنظرات النقدية، والطرافة، وبين أيدينا (في هجاء الزوجات – دراسة في الشعر العربي)، والصادر عن المجلس الأعلي للثقافة عام 2008، وهى الدراسة الوحيدة المنشورة للكاتبة حسب إحاطتنا، وإن اشتمل ثبت الأعمال تحت الطبع دراسة أخري بعنوان (عائلات ثقافية في مصر)، والعنوان سواء المنشور او تحت الطبع هي من العناوين غير المسبوقة، مما يؤكد جهد الإبداع وطرافة وجدة الأفكار، فإنتقاء المحور البحثي إبداع في حد ذاته، تقول بعد أن افتتحت مقدمة البحث بتوطئة عامة، ثم تسمية الظاهرة محل الدراسة (هجاء الازواج لزوجاتهم)، (وانها قد ترضي أناساً وتغضب آخرين .. قد تعبر عن الهم البشري وتقلبات النفوس .. وقد لا تعبر، لكن هذا ليس مبرراً لسقوط ظاهرة هجاء الزوجات من صفحة الدراسة النقدية علي مدي تاريخها حسب علمنا)، ومقدمة البحث ذات منهجية علمية من حيث الإشارة لأهمية الموضوع، وعناصر الدراسة (البيئة التي أنتجت الظاهرة / الدوافع النفسية / البناء الفني / ...)، وطرح فروضاً او أسئلة البحث لاختبارها (من الدائن ومن المدين؟ / كيف واجهت الزوجه المهجوه عنف الهاجي / ...)، وتحرير المصطلحات لغوياً وفنياً (نموذجاً: الهجاء)، والشمول بالإشارة إلي الظاهرة المقابلة (مدح المراة والتشبيب والوصف / هجاء الزوجات للأزواج أو المراة للرجل والمقارنة)، وتقديم الشواهد (من الشعر القديم والمعاصر معاً)، فكانت الدراسة بانوراما ثقافية ممتعة، فإذا طرقنا باب البحث وجدنا: أن الكاتبة تبدا من العام وتتجه إلي الأخص وكأنها تنقب بدأب وتتوغل شيئاً فشيئا في التفاصيل، بما ينبئ عن التنظيم الجيد، وكاننا نفتح صندوقاً أصغر من داخل صندوقاً أكبر، حتي نصل إلي الخلاصة الثمينة، فمثلاً تبدأ بدراسة الهجاء عامة وهل هو طبيعة عربية، وسر هذه الظاهرة الفنية لدي العرب وما بواعثها وتأثيرها وقدرها ...، ثم عن الاتجاه بالهجاء للزوجات وتفسير ذلك، ، ثم توازن الرؤية وموضوعية التناول، تقول: (وإذا راينا ان الرجل ظالم في هذه الحالات القليلة، فهل يكون مظلوماً في حالات أخري؟) ص 46 – الدراسة، ثم عن النكد الزوجي، ثم رد الزوجات، وهكذا تنتقل من جزء إلي جزء تفصيلي تبحثه بصبر وتطرح منطقاً في إنصاف. كما تقتني الكاتبة ثقافة الإنتقاء، وتقدم قصائد كاملة او أجزاء من قصائد أو أبيات أو بيتين أو حتي بيتاً واحداً، وتستعين في ذلك بمراجع نادرة، وقد أحصينا عدد (33) مرجعاً بين قديم وجديد، وكتب وصحف، وامهات الكتب وكتب إبداعية، ومطبوعة ومخطوطة، مما يؤكد الجهد المبذول. كما أضافت قيمة للدراسة من خلال لمحات نقدية، ورؤي فكرية حول الأعمال او الشواهد المختارة فتشير سريعاً لمذهب وتقييم نقدي لها، في كلمات وجيزة لكنها ملخصة وقوية، مثال في ص 130: (و لانتوقف عند نقاط الخور في بنية القصيدة – وتعددها – سواء علي مستوي المفردات او مستوي التركيب (..) وكذلك لا نفتش عن جمال السياق في بعض المواقع – وتذكر مثالاً – إنما تشغلنا ...) وتلك حيلة فنية بارعة فهي تقول أنها لن تذكر وتعدد ما تراه من امور في إيجاز ولكنه كاشف ونقدي من الطراز الأول. كما أن بالدراسة فواكه من الطرف والملح التي يستطيب تذوقها القارئ، وإن كانت في إطار من الطغينة الفنية، لكنها ممتعة لا شك منها (بمفردي الآن وحدي / اوشوش القصيدة / وأختبى في موجها / وأرتمي في مقطع لمقطع علي ضفاف قصة / وأشرب الموسيقي / بمفردي الآن أبدو، / كأني أنا منذ عام ونصف !!/ وزوجتي في غفوها / تنغص الملائكة) ص 69 إلي ص 70. والكاتبة تكشف قصديتها من الدراسة علي إجمال: (لننتمي ولموضوعية البحث العلمي ونقف علي ظاهرة ممتعة ومقلقة وتسعد أناساً وتسوء آخرين) ويبقي أن نشير لأمور: عدم إدراج هوامش لمعاني المفردات الصعبة (والتي لا يعرفها القارئ المعاصر) في الشعر القديم، صحيح أنها تشرح الأبيات غالباً بعد إيرادها، وهذا ُيفهم القارئ، لكنه لا يصل لجماليات الشعر ذاته لتعثره في مفردات مهجورة الآن، كما تم إيراد قصيدة الشاعر فريد طه (حسى بمشاعري يا هانم)، ومطلعها ( ياوليه اهتمى حبه بمظهرك في البيت) في الهامش رغم قيمتها ومتعتها الفنية ومناسبتها للإنتقاء في المتن، ولم نعرف سبباً لذلك، وهي المنشورة الان في ديوانه تناهيد، ويبقي أن نشير أن الغلاف نقطة ضعف بالدراسة، فهو ليس جيداً أو معد بعناية تذكر، رغم أن عنوان الكتاب وموضوعه يتيح تشغيلاً ممتازاً لغلاف أكثر تشويقاً وتعبيراً عن الدراسة.

هناك تعليقان (2):

  1. دراسة وافيه
    اتمنى ان اتصفح اعمال الاديبة المحترمة

    ردحذف
  2. شكراً جزيلاً أديبنا الكبير د. محمود رجب

    ردحذف