الخميس، 2 مايو 2013

قصة العندليب للقاص عصام عبد الحميد



العندليب
يحلو لى كثيرا مراقبة جدتى ذات السبعين عاما وهى تمشط شعرها الناعم الطويل جدا باعتناء فائق كفتاه مراهقة.. وأقول لها : ياجدتى أتمنى أن يكون شعر زوجتى المنتظرة مثل شعرك فتقول : ياولدى ليس المهم الشعر وتشير إلى قلبها وتقول : المرأة المحبة ذات القلب الصافى أروع شيئ فى الدنيا.. فأقول لها : ومالمانع أن يكون شعرها ناعم وقلبها طيب.. وتكون جميلة مثلك.. فتضحك متلألئة وتقول لأمى إبنك هذا الولد يجيد الغزل.. انتبهي له.
تبرز استدارة وجهها الجميل الأبيض المشرب بالحمرة حين تضع خمارها استعدادا للصلاة أو لقراءة القرآن تمارس شعائرها الدينية بخشوع جليل .. يصل أحيانا لحد البكاء .. كثيرة الصوم.. لا تدع صلاة الليل حتى لو صلت جالسة .. كنت أسمعها أحيانا تقول بخشوع باك حين تقف لصلاة الليل : نويت أصلى لك يارب من ديون الصلاة التى فاتتنى وأنا صغيرة فاقبلها يارب واغفر لى مافات .. فجسدي لا يقوى على النار.
 كنت مغرما بجدتى كثيرا.. طيبة القلب.. حنونة.. خصتني و أنا صغير بكل حواديت الحب.. الجميلة والوحش.. الأميرة والأقزام السبعة.. وغيرها  ولكنى لا أنسى تنهيدة صوتها أبدا وهى تحكى قصة سندريللا.
فى يوم من أيام مراهقتى بدا لى أن أسألها عن الحب.. كنت أريد أن أسألها تحديدا عن قلبها هى.. هل ذاقت يوما الحب؟ هل عرفته؟ هل جربت عذابه؟ لم أستطع يوما أن أتخيل أن جدتى كانت ذات يوم فتاة صغيرة.. فمنذ وعيت الحياة ارتسمت فى ذهنى صورة واحدة عن جدتى تلك التى أراها بها الآن.
عندما جلست أمامها اكتشفت كم هى المسألة عسيرة أن أسأل جدتى هل أحببت يوما؟ فقررت التفكير فى كيفية الوصول لإجابة عن هذا السؤال حتى اهتديت لحيلة.. وهى أن أسألها عن الحب فى زمانها هل هو مختلف عن الحب الآن .. ففاجأتني وهى تقول :
-         لم يختلف ولن يختلف..
قلت :
-         كيف؟
أشاحت بيدها وقالت متنهدة :
-         كله أوهام ..
قلت :
-         ياجدتى كله أوهام؟
قالت :
-    نعم كله أوهام .. البنات هن البنات .. والشباب هم الشباب .. البنات يتميزن بالبلاهة والسذاجة ويتمنين دائما من يشعرهن بأنوثتهن فينجذبن بسرعة فائقة لأى كلام جميل يقال.. والأولاد يعرفون ذلك عن البنات.. فيحفظون عبارات وجملا جوفاء.. يملؤن بها عقول البنات الغبيات.. ويظل الشاب من هؤلاء يتنقل بين الفتيات.. كلما شبع من ساذجة تركها محطمة الفؤاد.. وانتقل لأخرى.. هذا هو الحب الذى تسألنى عنه.
اندهشت قائلا :
-         هه.. هذا هو الحب فى رأيك ياجدتى؟
قالت :
-         هذا ليس رأيى هذه هى الحقيقة..
قلت :
-         ولكنك تتجنين كثيرا.. هناك حب صادق..
قالت :
-         الحب الوحيد الصادق هو الذى يطرق على باب البيت لا أن يختلس النظرات والكلمات..
سكت قليلا ثم قلت بتردد :
-         وأنت ياجدتى؟
حين قلت هذه العبارة فهمت بسرعة قصدى.. فأربد وجهها وتغير وقالت :
-         أنا ماذا ياولد؟.
قلت بجرأة مترددة غير مقدر العواقب :
-         ألم تحبى فى يوم من الأيام؟ ألم تجربى طعم الحب؟.
وحينذاك كنت قد تجاوزت خطا أحمرا لم أدرك خطره فصرخت فى وجهى قائلة :
-         اخرج من حجرتى يا عديم الأدب.
فانتفضت واقفا من المفاجأة.. ولكنها واصلت صراخها :
-         اخرج ياقليل الأدب.
حتى جاء على صوتها أمى وأبى وأخوتى فقالت :
-         أدخلوا هذا الولد مدرسة لتدريس الأخلاق.
 ثم وجهت الكلام لأبى :
-         تصور ابنك يسألنى هل أحببت يوما مثل الفتيات الغبيات؟ أنا أحب؟
لم يستطع أبى أن يغالب الابتسام وهو يهدئ خاطرها.. وكانت ليلة.. بذلت بعدها مجهودا خرافيا لمصالحتها.

بعد شهور على هذا الموقف.. حدث شيئ غريب.. إذ جاء أبى بعدد أسبوعى من أحدى الجرائد وكان معه ملحق خاص فى ذكرى الفنان عبد الحليم حافظ.. هذا الملحق لم يفتحه أحد.. فلم يكن أحد يستمع لعبد الحليم إلا نادرا.. ولا أحد يهتم بهذه الأخبار المعادة كل عام.. وظل الملحق ملق فى سلة الجرائد وقتا طويلا حتى لمحته جدتى.. ويبدو أنها تفاجأت بوجوده.. فمدت يدها بتلقائية وتناولته.. ونحن جميعا جلوس حولها وأخذت تتصفح الملحق باهتمام بالغ.. لم يلحظه سواى.. ولكنى لم أجرؤ أن أسألها.. يكفيني الخصام الطويل الذى عانيت منه.. وبذلت جهدا خارقا لأنال رضاها مرة أخرى.
أثار فضولى الشديد قراءتها الملحق عدة مرات ومتابعتها للصور بهذا الإمعان والاهتمام كأن عبد الحليم حافظ هذا كان زوجها أو حبيبها.. وبعد فترة اختفى الملحق.. وكلما خرجت جدتى من الحجرة دخلت من ورائها لأبحث عنه.. حتى وجدته فى دولابها وبين طيات ملابسها موضوع بعناية فائقة.
فى أحد الأيام طلبت أمى مجموعة من الجرائد لنفرشها على المائدة.. فتذكرت الملحق فتسللت لغرفة جدتى وأخذته بهدوء وجئت بمجموعة من الجرائد وفرشتها على المائدة وفرشت فوقها ملحق عبد الحليم حافظ لأرى رد فعلها.. وتحلقنا حول المائدة ونادت أختى على جدتى.. وحين أتت فوجئت بالملحق مفروش على المائدة ووضع فوقه الطعام صرخت فينا :
-         قفوا قفوا ..
اندهش الجميع .. ووقفت أمى منزعجة وهى لاتعرف مابها .. قالت جدتي :
-         ارفعوا الطعام بسرعة ..
فقال أخي الأصغر ساخرا :
-         الطعام فيه سم قاتل ..
فلم تلتفت إليه جدتى ونهرته أمى بعينيها ورفعت الطعام بسرعة وأخذت جدتى بيد مرتعشة تلملم الملحق وسط اندهاش الجميع وتقول :
-         العندليب.. العندليب.. هكذا نفعل بالعندليب.
تجاوبت أمى بسرعة معها وهزت رأسها وقالت :
-         عذرا يا أمى لايصح أن نفعل ذلك بالعندليب.
دمعت عينى جدتى وقالت :
-         العندليب.. العندليب هو ذاكرة الحب وتاريخها ..
ثم انتبهت جدتى فجأة للموقف .. وشعرت بحرج بالغ فتحرك خدها مختلجا بابتسامة دامعة.. فقبلت أمى رأسها بحنان وقالت :
-         لايصح أن نفعل هكذا بالعندليب سامحينا .. سأعاقب المشاغب الذى فعل ذلك ..
وقبل أن يعلق أحد كانت أمى ترسل بعينيها إشارة تحذيرية للجميع بالسكوت.. وساعدتها فى لملمة ملحق العندليب بعناية فتناولته جدتى وذهبت لحجرتها ولم تتذوق الطعام حتى أعادت ترتيب صفحاته ومراجعة الصور صورة صورة.. ثم جلست وحدها صامتة شاردة تتناول طعامها.

اكتسب شعرها الكستنائى بمرور العمر لونا يميل لصفرة شمس الغروب المتوهجة.. أعطاه بعدا شجيا جعلنى فى كل مرة أراها تمشط شعرها أمر عليه بيدى وأتمايل كما يفعل عبد الحليم حافظ وأغنى لها :
-         ( بتلومونى ليه , تا , بتلومونى ليه )
فتترك شعرها ليدى منسجمة مع لحن الغنوة .. وعندما أقول :
-         ( والشعر الحرير ع الخدود يهفهف.. ويرجع يطير )..
فتبتسم فى سعادة بالغة وتقول :
-          آه منك أنت.
ثم تضع خمارها للصلاة فيبدو وجهها الأبيض كقطعة من القمر فأقبلها فى خدها مكملا الغنوة :
-         ( لو شفتم عينيه.. حلوين قد إيه )..
فتدفعنى برفق فى صدرى وقد أخذها الطرب كل مأخذ قائلة :
-         ياولد هذا وقت الصلاة .. دعك من هذا الكلام الفارغ .. الذى تضحكون به على البنات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق