الاثنين، 19 سبتمبر 2011

تقنيات الدراسة الأدبية بمجلة القصة عدد أغسطس 2011م

تقنيات الدراسة الأدبية وقضايا المضمون
عبر (التداخل الثقافي في سرديات إحسان عبد القدوس) لمؤلفه د. شريف الجيار
سلسلة كتابات نقدية – العدد رقم 155- الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية
خالد جوده أحمد
مقدمة لابد منها: أهمية النقد الإبداعي
أتاح لي قراءة كتاب د. شريف الجيار استمتاعا كبيرا لدرجة أني أنهيت مطالعته في أيام معدودة، وكنت ألتهم منه أكثر من خمسين صفحة في جلسة القراءة الواحدة، وبهذا يمكن أن ندرج الكتاب –مطمئنين- في كتب النفس الواحد، وكأنها رواية ماتعة، وهنا تثار قضية أن الإمتاع ليس قاصرا وفقط علي الأعمال الإبداعية، بل أنه يمكن أن يكون العمل النقدي ممتعا فيما عرف باسم "النقد الإبداعي"، رغم تنوع الآراء حول هذا الشأن، فالحقيقة أن إشكالية العلاقة بين الناقد والإبداع إشكالية مشهورة، فالأديب الكبير يوسف الشاروني (والذي مثل معه ناقدنا الشاب لجنة التحكيم في مسابقة نادي القصة لعام من الأعوام)، يؤكد أن الارتباط الوثيق بين تجربتي النقد والإبداع الفني تجعل النقد يقترب أكثر من الإبداع الفني بحيث تضيق المسافة بينهما حتى ينتهيان إلي عملية واحدة، وتلك المقولة تؤكد أن العلاقة بين النقد والإبداع هو علاقة حضارية ، تقوم على وجود المادة المتاحة للبحث، والقدرة على تقنين الدوافع ورائها، وقدرة البحث حولها وإنارة السبل إليها وتصحيح مسارها، أو على حد قول د . إبراهيم حمادة : "مثل علاقة الجسم البشرى بنشاط البحث الطبي، والأجرام السماوية بنشاط البحث الفلكي، وظواهر البيئة بنشاط البحث الجغرافي ... " وهلم جرا ، فالنقد كما أشار أحد الأدباء بأوسع معانيه هو: "تذوق العمل الأدبي والاستجابة له بطريقة إيجابية لتعريف الآخريين به وبنواحي القوة والضعف فيه"، بالتالي يصبح كتاب د . شريف الجيار وثيقة تدرج ضمن العديد من الأدلة لتحطيم تلك الحواجز المسدولة بين الإبداع والنقد، أو علي أقل تقدير الاقتراب من أفاق التعاون والاتصال شديد الالتحام بينهما، بمعني أن عرضنا اليوم هاما لتأسيس هذا المنحي نحو مناقشات تتناول أعمال نقدية، باعتبار البحث النقدي موازيا للعمل الإبداعي، خاصة إذا كانت الدراسة النقدية بين أيدينا علي هذا المستوي من العمق والإجادة، وتتناول تلك الرؤية قضايا في شكليات المناقشة ومحاور في المناقشة تتحدث عن المضامين مع مراعاة أنها جميعا حلقات متصلة وتؤدي لبعضها البعض كما يصعب تناولها جميعا ، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
البحث الأدبي الجاد والمثقف العام
البحث الأدبي في غاية الأهمية، بل إنه إبداعا بشأن مختلف، ويدل نحو قدرة عقلية تنظيمية لصياغة الفكرة وإختبارها، والتوافر علي دراستها من مظانها المنوعة، وإثراءها بالفكر والتأمل والتحليل والتنسيق، والبذل الذهني والبدني، وجميعها خصائص تحققت عبر كتابنا اليوم ، بحيث نلاحظ منهجية البحث الأدبي والنقدي لدي الكاتب، وإعلاء قيمة الإتقان (باعتبارها قيمة حاكمة في البحث)، فالكتاب بحث منهجي بذل فيه جهدا ضخما ومدروسا بعناية مع اقتران ذلك برؤية نحو تبسيط المفاهيم النقدية وتقديمها إلي المثقف العام، والقارئ الشغوف بهذا اللون من القراءة، أما العناية في البحث فتتضح من تصفح البوابة الخلفية للبحث وهي قائمة مراجع البحث ، حيث تشمل أكثر من 68 مرجعا باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلي الدوريات والمعاجم، بالإضافة إلي مصادر البحث الممثلة في خمس روايات تمثل عناصر دراسة أدبية مقارنة بينها، والباحث الناقد انطلق من أسس البحث باختيار فروضه، وتمحيص ميدان البحث لينطلق مباشرة إلي مقدمة اشتملت علي أهمية البحث بإعتباره الأول نقديا في تناول مقارنة أدبية لروايات الروائي المصري الكبير إحسان عبد القدوس مع ندرة الأعمال النقدية عنها أصلا، ثم تناول منهج البحث من خلال علم النص المقارن وهو المنهج البنائي المقارن بين ثلاث روايات للروائي إحسان عبد القدوس، وروايتين لفرانسوا ساجان، وإلبرتو مورافيا، وانطلق الباحث من خلال عملية التشغيل والتي اشتملت بابين الباب الأول عن الشخصية الروائية وخلفياتها الحضارية، والباب الأخر عن تقنيات الخطاب السردي، ورغم أن الخلاصة من المفترض أن تأتي في خاتمة البحث لتتحدث عن نتائج الدراسة وأهم التوصيات، فقد آثر الناقد أن يضمن ذيل كل فقرة أو جزئية من بحثه خلاصة تنتقل بالقارئ إلي الفقرة التالية في تسلسل بنائي، كما لم يكن الأمر عرضا وفقط أو ناحية معرفية علمية بل إن المقارنة في إطار الأدب المقارن بين تقنيات السرد عند الأدباء الثلاث مدار البحث وضح رؤية الباحث الناقد بخصوص تفضيل ومناسبة تقنيات سرد عن سواها بما يؤكد عقلية علمية فاحصة، ومنهج فكري مستقيم، مثلا وضح الكاتب أن أسلوب السرد المناسب في رواية (أنا حرة) كان يجب أن يأتي عبر السرد الذاتي (ضمير أنا)، بدلا من السرد الموضوعي (ضمير هو) دون أن يتأثر البناء، وبرر ذلك بأن السرد الذاتي يضفي نوعا من الألفة علي الشخصية المحورية ويجعلها أكثر مصداقية في إقناع المسرود له / عليه والقارئ بواقعية الأحداث.
وبالتالي اجتمع لتلك الدراسة الجادة جوانب بحثية هامة من الحياد والإدلاء بالرأي النقدي، والإبتكارية في الموضوع والمعالجة، والمبادرة في التناول النقدي.
تبسيط المعارف النقدية
ملمح أخر هام في استرايتجية الناقد بفكرة أساسية تمثلت بإهتمامه بتبسيط المعارف النقدية وتقديمها للمثقف العام، وكذلك للأديب الساعي أن يكمل أدواته، وللمتخصصين في ذات الوقت، وقد أستطاع الباحث أن يحقق تلك المعادلة الصعبة بتكنيك معين يتمثل في اختيار الموضوع بحيث أتاح درجة ثراء غير عادية، بداية من تناول موضوع لم يتطرق إليه البحث النقدي من قبل، محققا طرافة البحث من حيث نواحي التناول: سواء بدراسة التأثير الثقافي في الروائي نفسه، واتضحت عناصر الموضوع بصورة جلية من خلال الدراسة الأدبية المقارنة، والشرح المبسط مع إقران ذلك بإدراج المصطلحات العلمية، بما يؤكد أهمية البحث الجاد وصلته بالمثقف العام، بحيث تنزل المصطلحات النقدية من عليائها وجفاف النواحي الأكاديمية لتقارب الفهم العام، واستخدم الباحث أكثر من وسيلة في هذا الشان، منها تعدد الوسائل الشارحة خاصة الجداول الموسعة في البحث (والغير مسبوقة عن الروائي)، والرسوم التوضيحية، والتمهيد بمقدمة تعريفية في بداية الموضوع وقبل الإنتقال للتطبيق علي الروايات المقارنة والتالي أمثلة :
• علم النص الأدبي ( ثمانى صفحات) في الحديث عن منهج الدراسة.
• مفهوم الشخصية الروائية نقديا، والرواية النفسية (ست صفحات).
• مفهوم الأدبية، ومكونات الخطاب السردي (إحدى عشر صفحة).
• مفهوم المصطلح النقدي " الرؤية السردية " ، وتنوع الصيغ السردية ( خمسة عشر صفحة ) ... وهكذا.
فالبحث مفيد في تقديم علم السريات، بحيث يخرج القارئ بحصيلة معرفية نقدية جيده حول هذا العلم، وكأن روايات إحسان عبد القدوس وإلبرتو مورافيا وفرانسوا ساجان أمثلة تطبيقية، بما يجعل المعلومات مفهومه وسهله بتناول التطبيق، وقد قمت بتجربة خاصة باستخلاص تلك المقدمات الشارحة للمعارف النقدية فخرجت بحصيلة وفيرة وذخيرة متميزة لعلم السرديات.
والبحث في حد ذاته نماذج تطبيقية لتلك المعارف النقدية الهامة بتقديم الشروح الوافية والنقول الداعمة من الروايات، بحيث أصبحت تلك الأمثلة موضحه تماما لتلك المفاهيم، مما ضاعف من متعة الكتاب.
ثقافة الإنتقاء وطرافة الموضوع
يتميز هذا الموضوع بالإقبال والانتشار خاصة لما تمثله المعالجة النقدية لبعض القضايا والكتابات من أهمية خاصة، ولدي ارتيادى لأفاق المنتديات والمواقع الإلكترونية أجد أمثال هذه القضايا تحظى بشعبية هائلة، خاصة لدي أدباء شغلوا الدنيا والأوراق والناس جميعا، ويكفي أن ننظر إلي الجدل الدائر حول أديب مثل نزار قباني، وإحسان عبد القدوس، ومن العجيب أنه رغم أن تلك الكتابات تحظى بشعبية هائلة واختلاف كبير في الرؤية بين جمهور المتلقين من القراء، لم تحظي بمثل هذا علي المستوي النقدي، وقد أشار المؤلف في أول صفحات من بحثه لهذا المعني، من خلال الإشارة إلي الحراك الهائل والدور المؤثر الذي أداه الروائي إحسان عبد القدوس في الأدب والحياة العربية مع ضعف التناول النقدي وتلك مفارقة عجيبة لا شك.
تقاليد الحوار الأدبي
هذا عن مستوي تقنيات ومفاهيم الدراسة الأدبية حسبما أستقيته وانتفعت به، ومنها قضية البحث الادبي الجاد وطرافته ومناسبته للمثقف والأديب، وقضية تمازج النقد والإبداع، وقضية الإتقان وإرتياد أفاق جديدة في البحث والإخلاص له، والعطاء المعرفي الكبير، وننتقل نحو أفاق المضمون، والذي يضم قضايا كثيرة جدا يصعب الإلمام بها في هذه العجالة، منها ما يتصل بمفاهيم مجردة كالثقافة، أو يتصل بقضايا فطرية وأدبية وحياتية أيضا، لنبدأ بمفهوم ضروري جدا وهو مفهوم (تقاليد الحوار الأدبي)، وإتاحة المجال لتباين الرؤي وتداول وجهات النظر، بحيث احتلفت الآراء وما زالت حول أدب الروائي إحسان عبد القدوس، ومهما تنوع الإختلاف فلابد من احترام الرأي الآخر والسماح بتواجد الآخر الأدبي، ويكفي أن نشير إلي قول ابنه الصحفي محمد عبد القدوس : "بصراحة أنا احب والدي جدا جدا، عشت معه عمري كله في بيت واحد، ورأيته علي الدوام رب أسرة مثاليا، ومن هذا المنطلق فأرجوك لا تسألني عن قصص أبي، لأنني منحاز له قلبا وقالبا، أرفض تماما المساس ولو بظفر من قدمه !! وإذا كان هناك شيء لا يعجبني في قصصه، وهو ما حدث كثيرا بالفعل، فإن هذا أمر بيني وبينه، ولا يخرج عن نطاق العائلة أبدا، احتراما لأبي وتقديرا وحبا له"، بل يقول د . شريف علي لسان الروائي نفسه : "المسألة أولا وأخرا زاوية الرؤية لما اكتبه من أدب"
هذا ملمح نوه به الكاتب وأشار إليه، ونطوف حالا حول هذه المعاني.
التناص ومصادر الثقافة
لم يختلف الناس في تعريف شيء كما اختلفوا فى تعريف ماهية الثقافة لدرجة تباين فيها الرأي لدرجة مناقضة بين أقصي اليمين وأقصي اليسار ولعل ذلك يرجع الى أن الثقافة وعاء يشمل جوانب الحياة جميعا، بل إلي الحد الذي اختلطت فيه تلك التعاريف وتداخلت مع مدلولات لمفاهيم أخرى، يقول أحد الكتاب تعليقا على التعاريف المختلفة للثقافة: "بعض هذه التعاريف يجعلها محدوده قاصرة على فعل النخبة من الناس، وبعض التعاريف الاخرى تجعلها وعاء شاملا لكل ما يحيط بالمجتمعات البشرية، فتشمل كل ما يوجد فى المجتمع من تراث ورموز وتقاليد ومعارف"، وقد قام أحد الباحثين بحصر حوالي مائه وخمسة وستون تعريفا من تعاريف الثقافة، ولعل التعريف عن طريق الهدف يفى هنا بالمطلوب، فنتسائل ما الغاية من الثقافة؟، أي أن الثقافة ووفقا لهذا المفهوم تدل على تنمية الذوق والعقل لمكتسبات معرفية والتالى تحقيق إنتماء فكري معين، فالثقافة مصطلح يدل على المعرفة بصفه عامة، وتلك المعارف المتراكمة تثمر أيضا وجهات نظر معينة تصطبغ بها الحياة بالكامل وتثمر منحى سلوكى واتجاه روحاني يؤثر فى الانسان نفسه والمجتمع بأسره ، فيقال ثقافة شرقية أو غربية ، ....إلي آخره.
وهذا ما حدث مع الروائي إحسان عبد القدوس كما دلل الباحث بحيث كان التداخل الثقافي يمتد ليشمل تأثر الروائي من حيث المضمون والذي اختلف أو اتفق معه فيه آخريين من ناحية، وبين الشكل الأدبي وتقنيات السرد من ناحية أخرى والتي لا يمكن إنكار أثر وريادة الروائي إحسان عبد القدوس بالانتقال بالرواية العربية لمراحل متقدمة بعد أن اختصر من عمرها سنوات ، والأمر علي تفصيل كما يلي: يشير د . شريف الجيار إلى أن إحسان عبد القدوس شرع في بناء نفسه ثقافيًا منذ أن كان طالبًا بكلية الحقوق فشحذ فكره، فبدأ بتثقيف ذاته، بقراءة الآداب العالمية، فأخذ يعبّ من الأدب الإنكليزي والفرنسي والأميركي والروسي، واستمرت هذه الفترة قرابة أربع سنوات فقرأ خلالها كل الآداب العالمية باللغة الإنجليزية، وكان لهذا الإطلاع انعكاس واضح في تفهم الروائي إحسان عبد القدوس لطبيعة الشكل الفني الروائي الأوروبي، وتكنيكه القصصي، إلى جانب تأثره بالفكر التحرري الذي ساد أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية، وانعكس أثره بشكل واضح على الحركة الروائية العالمية في تلك الفترة، ولا سيما في موضوع حرية المرأة، وقد أشار د. شريف الجيار نحو أن إيمان الروائي بحرية المرأة، وتفاعله مع المفهوم الأوروبي للحرية من خلال الأعمال الروائية الغربية أديا إلى حمله مسؤولية التطوير في القصة العربية، من خلال تناوله لمشكلات المرأة النفسية ، ومحاولته تطوير مفهوم حرية المرأة.
أما التناص فيتضح من خلال تلك القراءات الزاخرة والهائلة وقد أدهشني البحث بادراجه هذا التماثل الكبير الذي يكاد يكون متطابقا بين بنية الأحداث في روايات لا أنام ومرحبا أيها الحزن، ورواية إمراة من روما، من حيث الشخصية المحورية (والتي هي أساس الرواية النفسية) وواقعها النفسي والبناء العام، يقول الروائي إحسان عبد القدوس في حديث أجرته معه الأديبة نوال مصطفي: "هناك مئات تأثرت بهم .. وأعتبرهم أساتذة استفدت من كتاباتهم .. واستفدت من تاريخهم ... وأكثر أمر أستفدت منه هو القراءة فقد قرأت الكتب السياسية كلها .. وكتب الأدب كلها كل الأدب الروسي والإنجليزي .. والقصص خصوصا .. إنما من طبيعتي أنني لا أقرأ بهدف الحفظ واختزان المعلومات .. ولكن استوعب .. كما لو كنت آكل ما أقرأه".
اما الباحث نفسه في رؤيته للثقافة يؤمن بضرورة مواكبة أحدث التقنيات والعلوم والاستفادة منها مع عدم طمس هويتنا الخاصة أو شخصيتنا القومية فيقول: "هناك ضرورة لانفتاح العقل العربي على مستجدات العصر وأهمية التواصل مع الآخر والاستفادة منه ومن منجزاته العلمية والحضارية"، كما أشار نحو أهمية الترجمة لتحقيق التداخل الثقافي، باعتبارها الأداة الفعالة في الأدب المقارن لتحقيق التواصل بين الشعوب والخروج من حالة الإنعزال الثقافي.
ظروف النشأة والتربية وأثرها في الأديب
كما أصاب الباحث التوفيق لدي توضيحه لقضية تأثير ظروف النشأة والتربية علي الروائي بما يؤكد وجهة النظر الخاصة بضرورة دراسة ظروف الكاتب وعصره وأن لها أهميتها الخاصة لدي التناول النقدي لآثاره الأدبية.
(فأشار الباحث نحو نشأة الروائي في بيئة اجتماعية متنوعة الثقافة، حيث تأرجح في نشأته بين الثقافة الدينية الصارمة والثقافة التحررية، وقد تمثلت ثقافته الأولى في طفولته التي قضاها في بيت جده لوالده، الشيخ أحمد رضوان، وكان عالمًا من علماء الأزهر، اتسم بالحزم والصرامة مع أهل بيته، وتمثلت ثقافته التحررية في بيئة أمة الفنانة فاطمة اليوسف وبيئة أبيه الفنان المهندس محمد عبد القدوس)، والدليل علي ذلك أن الكاتب في حياته الخاصة كان شخصية ملتزمة للغاية، وتفسير ذلك أنه في نشأته تأثر بسيدتين هما عمته المحافظة ووالدته المتحرره وهذا التناقض أثر في الكاتب إلي ابعد حد يقول: "في الحقيقة واجهت مجتمعين مختلفين متباعدين تماما، وربما قادني هذا التفكير إلي قضية التقدم في الحياة ككل، لأن التقدم الاجتماعي هو التقدم في أي شيء وفي أي مجال .. وكان همي كيف أربط بين هذين المجتمعين واصل إلي مجتمع واحد يجمع بين والدتي وعمتي ؟ .. هذا ما وجه كل تفكيري وبني شخصيتي كمفكر وأديب"، وأشار في حديث آخر أنه رفض المجتمعين كليهما سواء مجتمع عمته المتزمته مطلقا ومجتمع أمه المتحرره مطلقا بل بحث عن المجتمع الوسط، وفي حوار أجراه معه الصحفي نبيل أباظه يقول: "كنت أرفض كل تقاليد المجتمع وبدأت أضع فكرا جديدا .. وتقاليد جديدة .. وهذه الفكرة هي التي سيطرت علي في اختيار قصصي وهو الأساس الذي من أجله كتبت كل قصصي"، بالتالي حمل الروائي إحسان عبد القدوس لواء التطوير في الرواية العربية من خلال تأسيس الرواية النفسية، ولم يكن له ذلك لولا استعداده النفسي والاجتماعي والثقافي لهذا التجديد
الروائي الثائر
لم يكن كاتبنا أدبيا فقط بل كان محللا سياسيا من الطراز الأول وقد شارك في الحياة السياسية بأوفي نصيب، وكان جرئيا (كشأنه في أدبه) فتعرض للإعتقال كما تعرض للإغتيال أكثر من مرة بما يدلل نحو أنه يعبر عن رأيه في جرأة ، ومنها قضية حرية المرأة، يقول: "الواقع أنني منذ بدأت تقديراتي الاجتماعية وضعت للمراة شخصية موازية ومساوية تماما لشخصية الرجل ... ومسألة تعمقي في فهم المرأة نابعة من فهمي أيضا لطبيعة الرجل بمعني أن كل ما يدور في عقل وأحاسيس الرجل يدور في عقل وأحاسيس المراة علي اختلاف المسئوليات".
قضية العمل الأدبي بين الذاتية والموضوعية
أشار الروائي في حوار أجري معه إلي أن قناعته الخاصة بانه لا فرق بين الرجل والمراة بما يجعله قادرا علي علي تحليل شخصية المرأة دون التأثر بالتقاليد أو بالمظهر الاجتماعي، وقال أيضا: "لكني مؤمن بأن الكاتب يجب أن يصف المشاعر الطبيعية في الموقف الذي يتحدث عنه دون النظر إلي هذه الأمور حتى يكون صادقا ومقنعا"، ويقول: "القصة عندي هي نظرات في المجتمع .. نظرات اجتماعية .. والحقل الوحيد الذي يوحي لي بالقصة هو المجتمع"، ويشير الكاتب إلي جرائته تلك في التناول خاصة بعدما حدث للمسرحي توفيق الحكيم عندما هوجم بخصوص الكراسة الحمراء في رواية الرباط المقدس، فظل أربعين سنة لا يطرق هذا الشأن، ويقول الروائي أنه لا يفتعل ويرمز للتطور والصدق ولا يتعمد الإثارة وأنه يعبر عن الواقع ويعالجه ولا يعالج الوهم، بمعني أنه يرصد عيوب المجتمع والعقد النفسية التي يعانيها الناس، فقال: "فالأديب مثل الطبيب يقوم بالكشف علي المريض .. والبحث عن المرض الاجتماعي وتشخيصه ووصف العلاج .... وكنت أهدف من كتابة كل قصصي إلي تحويل المجتمع إلي مجتمع صريح واضح وحر .. لا يظهر فيه الناس غير ما يبطنون"، أما الجانب الآخر من الرؤية فيري أن النزعة الذاتية في الغرب أسسها بودلير في ديوانه أزهار الشر بحيث أن الإحساس بالجمال يعود إلي ذوق الفرد بحيث يكون موضوع الأدب لا علاقة له بالقيم الأخلاقية والدين والعادات والأعراف، يقول د. مصطفي علي عمر: "وانا زعيم بأن إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي قد تأثرا في أعمالهم القصصية الطويلة منها والقصيرة بفلسفة الجمال عند " كانت " ، و " كروتشيه " حيث ..... تجسدت فيها النزعة الذاتية في قصصهم الطويلة والقصيرة، وكان العمل الأدبي من اجل المتعة واللذة ".
قضية مسئولية الحرية
وقد أشار الباحث نحو إنطلاق تأثير الفلسفة الوجودية في الأدب والحياة العربية، فعبر عن تصرفات الشخصية الوجودية والتي تؤمن بالحرية المطلقة بحيث يكون الإنسان هو وحده باعث القيم وباعث الحياة في كل ما يختاره من الأعمال، ووصف هذه التصرفات بأنها تصرفات غير مسئولة ناحية الحرية، بما يؤدي لضياع منظومة القيم الأخلاقية والفكرية والتي تمثل إنعكاسا واضحا للفكر الوجودي المتحرر في أوروبا، بحيث أدت إلي الإنهيار الكامن في أعماق الطبقة الوسطي في الخمسينات والستينات ومدي الخلل الاجتماعي التي تعاني منه هذه الطبقات، والتفسخ الأسري وضعف التربية بما سبب مشكلات اجتماعية ومن ثم مشكلات أخلاقية، وروايات الروائي إنما هي روايات اجتماعية نفسية تمثل انعكاسا واضحا للتغيرات الأيدلوجية التي حدثت في واقع المجتمعات بعد عام 1952، ومعاناة الطبقات البرجوازية من مشكلات الطلاق والمفهوم الخاطئ للحرية، ودلل علي هذا المنحي النهاية الموضوعية للشخصية، بحيث تنال نتائج أفعالها: ".. الأدب لا يصور الشخصية فحسب ، وإنما يصور أيضا المصير الشخصي"، ويقوم هذا علي أفعال الشخصية وسلوكياتها خلال العمل الروائي، والشخصية تعي هذا المصير ولكنها في الوقت نفسه مؤمنه بحريتها، بل إن الباحث الناقد أورد مقولة الروائي نفسه: "ليس هناك شيء يسمي الحرية، وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الدي يسعي إليه .. أننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغرضنا"
دلالة الأسماء في البناء الروائي
التناقض في الأسماء بين معني الاسم "أمينة سالم" وبين الإنحلال الأخلاقي الكامن في شخصية أمينة ووالدها، بما يصيب المتلقي بالدهشة لدي هذا الإكتشاف، ويذكرني هذا برواية "الثوب الضيق" للروائي فتحي أبو الفضل، عن زوجة لوثت شرف زوجها وارتكبت الخيانة الزوجية، وكان اسمها عفاف، وآخر سطر في الرواية يقول الرواي: "واسمها عفاف!!".
متعة الروائي بكتابة القصة
ومن الطريف أن يشير الروائي بنفسه في حوار أجرى مع الصحفي نبيل أباظه ويقول فيه عن تقنيات السرد في رواياته: "أنا لا أستطيع الحياة بدون كتابة قصة .. وكتابة القصة عندي لها متعة خاصة أكثر من متعة القارئ بها .. ولا أفكر أبدا وأنا أكتب في القارئ أو النشر .. متعتي الوحيدة أن أعيش ما أكتبه .. لأن كتابة القصة كالتمثيل تماما .. وبدلا من ان يقوم الممثل بدور واحد أقوم أنا أثناء الكتابة بتمثيل عشر أدوةار في وقت واحد".
الأدب ليس ترفا
الأدب ليس مظهرا من مظاهر الترف، حيث نسمع كثيرا من يقول إنه لا يهوي الأدب ومطالعته، وأن شئون المعاش أكثر أهمية وأجدى نفعا، وهو في ذلك قد جانبه الصواب، فالأدب يشتمل نفوسنا في أكثر أوقات حياتنا، فوسائط الإعلام بما تقدمه من دراما وفنون، والنماذج الأدبية التي تقدم عبر تلك الوسائط العملاقة قد شكلت وجدان الناس، وطرائق التأثير الفني والأدبي قد رسمت أفكارهم وحياتهم، وإن ظنوا أنهم بعيدون عن دائرة الأدب، ويكفي أن نشير إلي جدل هائل والثائر حول بعض القصص والروايات والتمثيليات السينمائية والإذاعية والمتلفزة، ونقدم ما أورده الباحث الناقد حول أنه (قد حققت روايات إحسان (22 رواية) ومجموعاته القصصية (32 مجموعة قصصية)، نجاحا جماهيريًّا كبيرًا، في مصر والعالم العربي، وذلك لبساطة لغتها، وجرأتها على تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية في مصر والعالم العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، وساعدها على ذلك تناول هذه الأعمال إعلاميًّا، حيث تحول معظمها إلى أفلام سينمائية (49 فيلما ً) ومسرحية (5 مسرحيات) وإذاعية (18 عملا( وتلفزيونية (28 مسلسلاً وسهرة)، وأعتقد أن هذا دليلا قويا।
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
• شريف الجيار - التداخل الثقافي في سرديات إحسان عبد القدوس (مدخل نقدي) – سلسلة كتابات نقدية – العدد رقم 155- الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
• يوسف الشاروني - نماذج من الرواية المصرية – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• إبراهيم حماده - هوامش في الدراما والنقد – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• محمد عبد القدوس - حكايات إحسان عن القدوس – سلسلة الأعمال الخاصة – مكتبة الأسرة 2000 – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• محمد الرميحي - مجلة العربى الكويتية – العدد رقم (482) – يناير 1999 – مقال "الثقافة ذلك السهل الممتنع".
• نعمان عبد الرازق السامرائي - نحن والحضارة والشهود (الجزء الأول) – سلسلة كتاب الأمة – العدد رقم (80) – ذو القعدة 1421 – وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بقطر.
• نوال مصطفي - نجوم وأقلام – سلسلة الأعمال الخاصة – مكتبة الأسرة 2002 – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• مصطفي علي عمر - العمل الأدبي بين الذاتية والموضوعية – دار المعارف - 1989.
• نبيل أباظه - قمم مصرية – مكتبة الأسرة 1999 – سلسلة الأعمال الخاصة – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• منتديات انتخاب كوم:
http://saudielection.com/ar/forum/showthread.php?t=19675
• مديحه أبو زيد - قراءات جديدة فى تراثنا القديم - قدمها المؤتمر العلمى الثانى لآداب بنى سويف
http://www.smartwebonline.com/NewCulture/cont/017800200002.asp

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق