الاثنين، 19 سبتمبر 2011

فلسطينيات الشاعر محمد وهبه


دراسة عن قصائد الشاعر / محمد وهبه من أدباء مدينة السادس من أكتوبر
الشاعر محمد وهبة في فلسطينياته
أ.د/ جابر قميحة
gkomeha@gmail.com
محمد وهبة * واحد من الشعراء الشباب الموهوبين، وما بين يديّ من شعره يشى بأن له مستقبلاً عظيمًا فى مجال الإبداع الشعرى، وهذا الحكم يصدق على كل شعره الذى عشت معه، بل عشته. ولكن الذى يهمنا فى هذا المقام ما نظمه من فلسطينيات فى قصائد مستقلة، أو مقطوعات فى تضاعيف قصائد أخرى. والمضامين الفكرية التى عالجها الشاعر فى شعره تكاد لا تخرج عما يأتى:
1 - قضية فلسطين جزء من الكيان العربى والإسلامى والوجود الإنسانى كله.
2 - القدس - بما فيها المسجد الأقصى - هى قطب الرحى، وهى فى بؤرة الشعور والوجدان والتفكير.
3 - انتفاضة الحجارة مظهر من مظاهر المقاومة الشريفة، وهى ظاهرة تاريخية لم تسبق بمثيل، أو شبيه.
4 - مأساة فلسطين وضياعها جريمة تضامُنية من عدة أطراف منها الصهيونية العالمية، وعتاة الصليبية، وزعماء العرب والمسلمين المفرطين الذين ساروا فى ركاب أعداء العروبة والإسلام، وخصوصًا أمريكا.
5 - التهام فلسطين لا يمثل إلا خطوة واحدة نحو ضرب الإسلام والعروبة، واحتلال بلاد العرب والمسلمين فى عصر العولمة، ويؤكد ذلك ما حدث لأفغانستان والعراق.
6 - ما زلنا للأسف نحكِّم عواطفنا، فنبدى غضبنا، ونظهر أحزاننا، ونريق دموعنا فى مواجهة نكبات تحتاج منا إلى التفكير والتخطيط، والإعداد المادي والمعنوي، وقيادة الشعوب قيادة رشيدة، سداها ولحمتها العدل والإنصاف والعمل الدائب على النهوض بها، وتقدمها فى شتى المجالات.
**********
يستهل الشاعر «محمد وهبة» فلسطينياته بقصيدة عنوانها: «وجع القلم»، وأنا أعتبرها من فرائد الشعر الحديث تصويرًا وتعبيرًا، فهى قصيدة حوارية درامية ذات إسقاطات سياسية قوية الدلالة: فالشاعر فيها يطلب من قلمه أن يستجيب له، لينطلق به كاتبًا ناظمًا، ولكن القلم يأبى، ويتعصى، فهو كما يقول الشاعر:
ينأى ويهجر دفتري
وإذا به يبكي...
وينظر نحو أقصانا الأسير
وإذا بلون.. من سواد الجرح يطغى
يصبغ الجدران شيئًا من دماء
وإذا بحزن يحتويني
يستبيح مشاعري
صرخ القلمْ: يكفيك وهما
كف عن هذى الكتابة
ويعلل القلم هذا الانصراف عن الكتابة بأن النكبات التى تنزل بالأمة أكبر من أن تعالج بالكتابة والشعر، والبلاغة والفصاحة، لذا يصرخ فى وجه الشاعر:
ليلَى قد اغتصبت
وأنت تهيم فى بيدائها
تبكى على شرف القبيلة
وزناة عصر الذل يفترشون مضجعك الشريف
ويأكلون شرائح اللحم المتبل بالهزائم
وانكسارات الوطن
ويُصْدرون - بمالك - الصحف العميلة
وينظمون قصائد الشجب المدبْلج
ويعرض مظهرًا من مظاهر الهوان المتمثل فى مؤتمر أو مؤتمرات القمة، فنرى القادة والساسة وهم:
يطلقون بيانهم
فى قمةٍ
هى قمة البيع الرخيص بلا ثمنْ
وثمة مظهر آخر من مظاهر السلبية والتفريط يلح عليه الشاعر، وهو استشعار الحزن، والبكاء من أجل فلسطين بعامّة، والقدس بخاصة، فمثل هذا التوجه لن يهزم عدوًا، ولن يخلص أرضًا.
يقول الشاعر فى قصيدة (كفانا بكاء):
أنبكيكِ يا قدسُ يا أرضنا
ويا ملتقى الأنبياء...؟!
أنبكيك يا قدس، يا أندلسْ
ويا مدْرَجا للسماء..؟
أنبكي، وننسى دماء تسيل؟
أننسى شموخًا علا كالنخيل..؟
أما آليات التحرير، فتتمثل فى مضامين هذا التوجيه القوى القارع الذى ختم به الشاعر قصيدته (وجع القلم)
فاكسر قيودك واقتحمْ
اشهر سيوفَ النورِ
فى وجه الظُّلَم
انفض غبار الذل عنك.. ولا تهن
لا عيش إلا للذين تحرروا
من ربقة الليل المخيم
فوق خارطة الوطن
لا عيش إلا للذين تحرروا
من ربقة الليل المخيم
فوق خارطة الوطنْ
ومن أقوى قصائد الإدانة قصيدة «هنا القاهرة». وفيها يعبر الشاعر عن شعوره الحاد بالغربة الروحية، وهو يعيش فى القاهرة - عاصمة بلاده - فهو يعانى قساوة الظمأ فى بلد يجرى فيه النيل، فيستبد به جفاف الوعى، وجفاف الروح، حتى إنه لم يعد يدرى «ما سينثر من حروف فى كتابه»، وهو يعبر عن هذا العجز صراحة فى قصيدة أخرى بقوله:
لا تسألينى الحلمَ
فى زمن البلادة والدجلْ
لا أستطيع كتابة الشعر المزركش بالأملْ
لا أستطيع فعصرنا لا يحتملْ
وهذه الأزمة الحادة التى يعيشها الشاعر ترجع إلى انعدام التوافقية بين «الآنيّ المشهود المنظور» وما كان يجب أن يكون، ولو فى حده الأدنى:
فالمآذن الألف تعلو، تشق سماء القاهرة، وآلاف الأصوات تعلو: حى على الجهاد، والقاهرة تسهر باكية للضحايا. وقد لا تخلو هذه الأصوات الجماهيرية - على سلبيتها، أو عفويتها - من حرارة ومصداقية. ولكن الشاعر يخلص إلى أن الجناية جناية الكبار الذين يتظاهرون بمشاركة الجماهير وجدانيًا، ثم يعصفون بهذه الجماهير فى بشاعة ووحشية:
فى القاهرةْ
خرج الأمير منددًا بالمجزرةْ
صاحت جموع الناس
حيَّ على الجهاد
دم الضحايا.. بعض أشلاء الوطن
تناثرتْ
فوق التراب المقدسيّ
فى القاهرة
صدر القرار
«فرض الحصار
إشعال نارْ
فى كل من يصرخ.. ينادى بالجهاد»
ويمضى الشاعر مسكونًا بعشق القدس. وهذا العشق يفجر وجدانه هذه المرة غضبًا عارمًا، يزلزل منطق التفريط، والتميع الذى أضاع الأندلس بالأمس، وأضاع فلسطين اليوم، فلم يبق إلا الموت والتيه:
لا وقتَ عندى للبكاءْ
لا وقت عندى...
كى أكفكف دمعةً
فالموتُ جاءْ
هذى شواهد عشقنا المهزوم
فى ليل البغاءْ
تحكى لنا.. عن حلم أندلس مضى
كيف انقضَى
كيف ابتدا هذا البلاء...
تحكي لنا
عن قدس أقداس العرب
تحكي لنا عن الغضب
كيف استحال ميوعةً...
كيف ارتضى نخل الوطن
كيف استطاب الانحناء
لا وقت عندى
لا وقت عندى للبكاء
والقدس تلازم الشاعر فى كل مسيرته الشعرية، ويراها أضيع من الأيتام على موائد اللئام. ولا منقذ ولا مجير، يقول الشاعر فى قصيدته: صرخة فى واد:
صرختْ دماءُ القدس فى أكفانها
رباه إنك أنت كل رجائى
من بعد ما جفت دماء المسلمين
أما دموعهم فهى آليتهم المثلى «للتصدى»، بلا عمل إيجابى يستردّون به فردوسهم المفقود.
**********
والشاعر - كما ذكرنا آنفًا - يؤمن بأن قضية فلسطين ليست قضية «آحادية الوجود»، كالقضايا التى يتنازع فيها طرفان، كل منهما يحرص على الكسب بقرار نهائي، فهو يؤمن بأن هذه القضية ـ وخصوصًا فى عصر العولمة، وبتعبير أدق عصر «الأمْركة»، أو القوْلبة الأمريكية - هى نقطة الارتكاز، أو الانطلاق العدواني لضرب كل ما هو فلسطيني، وكل ما هو عربي، وكل ما هو إسلامي، بل كل ما هو إنساني. بحيث يكون لأعدائنا كل شيء، ولا يكون لنا أى شيء.
ويتولى كِبْر هذا التخطيط اللعين أمُّ الشر أمريكا، وعلى رأسها رئيسها «بوش»، ذلك الصهيوني المتأله المغرور. وشاعرنا محمد وهبة - وهو يرى نصب عينيه حالة الانهيار والتفتت العربي والإسلامي - لا يستبعد أن يأتي اليوم الذى يقرر فيه هذا المتألهُ المغرور:
أن يهدمَ البيتَ الحرام
ليصير بعد مدى قريب
معسكرات للجنود
اسطبل خيل لليهود
وفى نبرة عالية تمتزج فيها السخرية الصاخبة بمرارة الألم، يوجه الشاعر حديثه للرئيس الأمريكى الأعلى، معرّفًا بنفسه: بأنه عبد فقير، وأنه من «مقاطعة» تسمى القاهرة، ووصف القاهرة بأنها مقاطعة فيه إيحاء قوى جدًا «بالدونية» أو «التبعية السياسية»؛ لأن مصر مقسمة إلى محافظات، لا ولايات، ولا مقاطعات، كما هو الحال فى أمريكا. يقول الشاعر:
إننى عبد فقير
من مقاطعة تسمى القاهرةْ
لا بيت عندى.. لا وليفَ.. ولا عملْ
كل الذى عندى بقايا من أمل
أن ذات يوم سوف أصحو
ثم أعلنُ أننى
عبد كفرْ
بكل طاغوت الإله المستبد
بكل تاريخ البشرْ
وأننى يا سيدى
لا أستحق كرامة العيش الهنيء بكونكم
لأننى.. عبد جحود
يأبى اتباع نبيكم
يأبى الصلاة.. وراء أحبار اليهود
وبلغ من صلف الأمريكان، وحرصهم على الهيمنة، والسيادة والسيطرة على العالم أنهم حاولوا ويحاولون التسلل القهري إلى جوّانية الإنسان للتحكم فى مشاعره، وتشكيله تشكيلاً عقليًا ونفسيًا حسب مشيئتهم ليكون مجرد ترس فى آلتهم، وعبدًا من عبيدهم، لذلك خاطب الشاعر الرئيس الأمريكى كختام لمطولته بقوله:
لكن جندك قد أبَوْا
إلا بقتل الحلم فى صدري...
وتمزيق الصور...
من أجل ذلك سيدي
إن يسألوك فقل لهم...
... عبدي انتحر
والقصيدة التى عرضنا منها القطوف السابقة عنوانها «عزاء واجب» ، وهى من أواخر ما نظم الشاعر، إذ نظمها بمناسبة مرور عام على أحداث أيلول/ سبتمبر التى وقعت سنة 2001 ، وهى - كما ذكرت - مطولة، بل أطول ما نظم الشاعر بالنظر إلى القصائد التى بين يدى، وقد استوفت هذه المطولة الشرائط المطلوبة فى الإبداع الشعرى فكرًا، وتصويرًا وتعبيرًا، وهى تحتاج إلى دراسة مفردة كقصيدة من أرقى ما نظم بمناسبة أحداث أيلول/ سبتمبر، وقد انطلق منها الشاعر إلى إبراز مسئولية التفريط والضياع على المستويين الداخلى والخارجى، مع التركيز على عرض «الدور الكبير» أو دور «البطولة الشيطانية» الذى اضطلعت به أمريكا ورئيسها بوش، وفى القصيدة تنوع أسلوبي واع، مع الإكثار من الأسلوب الإنشائي، وأسلوب الالتفات، لتقف هى وقصيدة «وجع القلم» على قمة ما نظم الشاعر محمد وهبة، وفقه الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ـ* محمد عبد الواحد وهبة (وشهرته: محمد وهبة)।



ـ ولد بالمحلة الكبرى بجمهورية مصر العربية فى 15/ 2/ 1977م.
ـ كانت بداياته الشعرية فى المرحلة الإعدادية، ولكن البداية الحقيقية كانت مع بداية المرحلة الجامعية.
ـ حصل على ليسانس الآداب، قسم الفلسفة سنة 2001 من جامعة طنطا بمصر.
ـ ينظم الشعر كذلك بالعامية، كما يكتب القصص القصيرة. وقد حصل على عدة جوائز فى إبداعاته المختلفة.
ـ نشرت له عدة قصائد، وبعض المقالات فى صحيفة آفاق عربية، وعنده من الشعر المخطوط ما يصنع ديوانين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق