الخميس، 8 نوفمبر 2012

قصة (شاي الطلاق) - الأديب خالد الطبلاوي

شاي الطلاق


فرصة رائعة لا يمكن التراخي عن الإمساك بتلابيبها، عامل جديد سيكشط بحضوره هذا السكونَ الرابض حول الشيخ "جمال" - كما يحب أن ينادى - مقيم الشعائر بالمسجد الشاذلي؛ فأهل الحي الذين كانوا يحسدونه على هذه الوظيفة التي تقربه من الله، لا يعلمون مدى ما وصلت إليه حرارة الكلمات المكبوتة التي حبسها في جوفه.

"شنطح"؟!
هل هذا اسم عامل في بيت الله؟ ولكن لا بأس ما دام "لشنطح" هذا أذنان، يمكن لجمال أن يُفرِغ فيهما مكنون صدره، الذي لا يجرؤ أن يتلفظ ببعضٍ منه أمام أمِّ جلال، هذه المرأة التي ملَّت مدفع الطلاق المنبعث من فمه، والأسطوانات المشروخة التي كانت سببًا في إعراض الزبائن عن "حانوت جمال المزيِّن"، قبل أن يعمل في وظيفته الجديدة.

كان جمال أبعد ما يكون عن معنى اسمه، يشتكي جلبابُه جفاءَ الماء، رغم إصرار أم العيال على غسله، بل كان ذلك سببًا للمعارك الأسطورية التي تقع بينهما، والتي كانت تنتهي بتركه المنزل حتى تنتهي من الغسيل، ولعل القذارة وكثرة ثرثرته تزوَّجَا لإنجاب هذا النفور الذي عكر جبهةَ البيت والعمل.

على كلٍّ، قد أصبح هذا لا يعنيه مع وظيفته الجديدة؛ ففيها ما يسمعه الناس منه رغم أنوفهم، فإنهم لا ولن يمتنعوا عن سماع الأذان بصوته الأجش، المذبوح بسكين البرد والتدخين.

دخل "شنطح" في أول أيامه الوظيفية على "جمال" في حجرة المسجد، في غياب الإمام الذي كان حضوره للمسجد أشبهَ بالغياب؛ فهو متفرغ بكل طاقاته وأوقاته لتجارة المواشي، فقام جمال بكل الأدوار من وزير الأوقاف حتى الإمام، وراح يرجع بصدره إلى الخلف منتفشًا، وهو يتلو على "شنطح" آداب وواجبات المُستجِد نحو القديم، والمرؤوس نحو الرئيس، قبل أن يعلمه بواجباته الوظيفية.

وكان "شنطح" ذا هيئة تُغرِي مَن أمامه باستغفاله والضحك عليه؛ فهو صغير الرأس، في ظهره انحناء، تكاد البلاهة أن تقفز من عينيه؛ لتستجديك أن تخدع صاحبها، وإذا صافحك تشعر أنه خرج للتو من ثلاجة الموتى.

المهم أن "شنطح" استمع بفتورٍ لسيل التعليمات، ولم يزد على هزِّ رأسه، ولم تنطلق الكلمات من جوفه إلا عندما تندَّر "جمال" باسمه، الذي يوحي بفيلم كرتون من الأفلام التي يراها ولدُه الصغير؛ فيضحك حتى يلتصق ظهره بالأرض، فشمر "شنطح" عن ساعد الرَّغي، وراح يحكي عن أمه - سامحها الله - التي أطلقت عليه هذا الاسم؛ ليعيش، ولكن اسمه - كما يجب أن ينادى - الشيخ حسن، قالها في أنفة وكِبر، وليته ما قالها، فقد أسمعتْه ما يكره؛ إذ انتفض جمال كالوحش صارخًا:
نعم نعم! ولما سيادتك تبقى الشيخ حسن...

وراح يضغط بأسنانه على كلمة الشيخ، حتى كاد أن يقطعها بأسنانه ثم أكمل:
بماذا يناديني الناس إذًا؟ يا كيس الجوافة؟!

وهنا بلع "شنطح" ريقه، ثم قال:
لا أنا ولا أنتَ، ما  يستحق المشيخةَ إلا شيخُ الجامع.

وبلع جمال ما كان في جَعبته من كلام، مع دخول آخرين في المعادلة، ودخول وقت الظهر، ووجوب الأذان، فقال في لهجة الإعجاز والتحقير:
وبسلامتك تعرف تؤذِّن؟

وكانت فرصة "لشنطح" ليعبر عن الشيء الوحيد الذي يعتز به، وهو صوته العذب، فأراد أن يحكي، ويزيد ويعيد، إلا أن "جمال" كتم أنفاسه بقول:
قالوا: الجمل طلع النخلة، هذا الجمل وهذي  النخلة.

ووقف جمال وراء "شنطح" وهو يؤذن، واضعًا يده وراء ظهره، ناظرًا بكبر قد امتزج بالغيظ؛ لرؤيته رواد المسجد وقد تمايلوا مع الأذان طربًا، ولم يستطع أن يخفي إعجابه بعد الأذان مضطرًّا، مع إسناد الفضل لنفسه، فصاح مشيرًا إلى نفسه بغرور:
والله، وعرفت تعلم صبيانك يا شيخ جمال.

إلا أن أحد الرواد من كبار السن لسعه قائلاً:
تعلم مَن يا جمال يا بني؟ وأنت صوتك يخوف أمنا الغولة.

فانطلقت الضحكات تملأ المسجد، وانطلق معها سباق آخر من الشد والجذب بين "شنطح" وجمال.

فراح جمال يلاحظ "شنطح" على مر الأيام في حركاته وسكناته وكلامه، باحثًا عن مناطق ضعفه؛ ليستطيع ضمه تحت جناحه حتى أدرك مقتله.

إن "شنطح" تستهويه أخبار الولائم والعزائم؛ فهو ضيفٌ أَشْعَبِي على كل موائد الأفراح وغيرها من المناسبات، حتى المآتم، فتجده حاضرًا دون أن يكلَّف أحد بدعوته؛ فالجميع تعوَّد على وجوده بداعٍ وبدون داعٍ.

ولما كان الفصل فصل الشتاء، فإن الحفلات تكاد تختفي وتندر، وكان يوم الثلاثاء الرابض بين الأحد والخميس - وهما أيام السوق، والطهي، واللحم، وما لذ وما طاب - لا يريد الرحيل، وهو في الغالب يومٌ خفيف الطعام، والتحبيش، وأطباق البصارة، التي ينفر منها "شنطح"، ويفر فرارَ الحُمُر من قَسْورة.

ومن هنا انطلق جمال يصف لذة الأرز المعمَّر الذي تصنعه أم جلال، وكيف أنه ظل يقاوم رائحته؛ لكي يستطيع الحضور للمسجد، وكيف أجبر نفسه على مغادرة المنزل، ورائحة تحمير ذَكَر البط تعشش في أنفه، وراح يصف حزنه على ربع الطائر الذي لن يجد مَن يأكله بعد أن هاتفه ابنه جلال الذي يعمل في الأمن الوطني، وأخبره أنه لن يستطيع الحضور وتناوُل الغداء معه، وكيف أنه سيشعر بالوحدة مع ابنه الصغير وزوجه، وراح يردد:
أين أنت الآن  يا جلال يا بني؟ ذكر البط والمعمَّر يناديك.

وكانت الكلمات أشبه بسكين الجوع والحرمان يحز في رقبة "شنطح"، الذي ابتلع الطُّعْم، فراح يخفف عن جمال بكلمات يهيئ لنفسه بها مكانًا في هذه الوليمة العامرة:
ربنا يرجعه لك بالسلامة، ولا تحمل همًّا؛ أنا رهن أمرك، وسوف أرافقك، وأحمل لك كيس العيش والخضار إلى البيت،ويا حظه مَن يطعم مسكينًا جوعان.

تحمل "شنطح" حكايات جمال عن ولده الساعي، وكيف كان له قبل الثورة جولات وصولات، وكيف كان نجوم الناس يتمنون رضاه، وكيف كان بكلمة منه يمنع تعيين فلان، وبكلمة أخرى يرفع من شأن الهابطين، حتى قامت الهيجاء كما يسميها، فضيقت عليه وعلى ولده، حتى إن الباشا الكبير الذي يعمل جلال خادمًا له خرج بزي النساء من مكتبه؛ حتى لا يؤذيه الثوار.

وفي البيت أكمل جمال حكاياته من أول الجد إلى ساعته، وأمامه الموقد وعدة الشاي، وراح يسقي "شنطح" الذي ينتظر شيئًا آخر إلى أن اقترب موعد صلاة العصر وهو يناوله الكوب السابع، وهنا ثار "شنطح" وأقسم ألا يشرب الشاي، فأحس جمال أن درجة خضوع "شنطح" قد انخفضت بهذا اليمين، فصاح فيه:
وعليَّ الطلاق يا رجل لتشربها.

وهنا انفجر "شنطح" في وجهه:
نعم نعم!! ورب العرش ما أنا بشارب، وهل كنتُ امرأتك لتهددني بالطلاق؟

واستمع جمال لحسيس أم جلال داخل الدار، وأدرك أن الأمر جد خطير، وأنها لو غضبت منه وذهبت لبيت أبيها، فلا رجوع دون كسوتين شتوية وصيفية وخلافه، فراح يتودد "لشنطح" أن يشرب الشاي، ولكنه رفض بشدة، وراح يعدل حذاءه، ويهم انصرافًا، وجمال يمسك بثيابه، ويكاد يقبل قدميه ليشرب الشاي، ولكن هيهات لقد وجد "شنطح" ما يرد به على هذا الفصل البارد من مسرحية ذكر البط، وانتقل المشهد إلى خارج المنزل وجمال يمسك ثياب "شنطح" بيد، والشاي باليد الأخرى، ولسانه يسيل بالتودد والرجاء، ألا يخرب "شنطح" بيته.

وتدخَّل المارة ليخلصوا "شنطح" من يد جمال، الذي كاد أن يخنقه وهم في أشد العجب من إصرار جمال، حتى قال أحدهم في ضيق:
اتركه يمضي يا أخي ولا جعله الله من الشاربين، أيشربُ مكرهًا؟

بينما جمال يردد نادمًا على فعلته:
صدق من قال: من لا يدري لا يقبل عذري.

وغضبت أم جلال، وامتلأ جمال غيظًا من "شنطح"، وأقسم لابد من تأديبه، فلحق به في المسجد، وما أن انتهى الناس من صلاة العصر حتى صاح جمال في وجه "شنطح" أمام الناس:
الحمامات في غاية القذارة، حلِّلوا لقمتكم وقِرْشكم، حرام عليكم!

ولم يكن "شنطح" أقل غيظًا، فردَّ عليه بغلظة أشعرته بالإهانة، وما لبثت الأيادي أن مارست عملها ومعها الأرجل، وسالت الدماء، وتدخل الناس لفض النزاع، وعلموا بالقصة، فصارت مادة التندر لكل ذي فراغ، ووصل الأمر إلى الشرطة والنيابة، وما أدراك؟! وتدخل أهل الخير مع الإمام للحل وإصلاح ما فسد، وعقدت الجلسة، وحضر مدير الإدارة بذات نفسه، وتم الصلح على أن يزور كل منهما الآخر في بيته، فطلب كل منهما أن يبدأه الآخر بالزيارة أولاً، وأصر جمال في كبر:
امرأتي طالق إن لم يزرني شنطح أولاً

ليصيح الحاضرون في وجهه لائمين ومذكرين بورطته التي لم تحل بعد مع أم جلال.

والتقط مدير الإدارة الخيط ليلقي اللوم على الإمام لغياب دوره الدعوي، وراح يذكره بوجوب تعليم من يعمل معه في المسجد، وبيان عاقبة الحلف بالطلاق و.... و......

فاحمرَّ وجه الإمام، وراح يدفع لطخة التقصير عن وجهه، فصاح بوجه عابس:
امرأتي طالق ثلاثاً إن لم أحذرهم من اللعب بيمين الطلاق مرات ومرات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق