الخميس، 8 نوفمبر 2012

قصة (قبر سلطان) للأديب خالد الطبلاوي

سلطان الحافي"، هكذا كانوا يسمُّونه قديمًا قبل أن يتغيَّر اسمه إلى "سلطان العمائر"، بعد أن صار مالكًا لأكثر من ثلث عمارات الحي الذي يقطنه.
خرج "سلطان" من بيت فقيرٍ في المال والرجال، بل في النساء أيضًا، كان أبوه أحد عُمَّال "الدريسة " بالسكك الحديدية، وكانت أمه تخدم في البيوت، ولم يكن له من الإخوة إلا "مرادًا" الذي تشبَّث بالتعليم؛ رغم أنياب الفقر المغروسة في أحوال الأسرة جميعًا مطعمًا وملبسًا، حتى البيت الذي وضع له سنادات من الحديد المسروق من عُهْدة السكة الحديد الملقاة على جانبيها، وكأنه يتكِئ على عصا، وسقفه من خشب "الفلنكات" القديمة التي استبدلت بها هيئة السكك "فلنكات" مصبوبة من الأسمنت المسلح بالحديد، وأخرى من الحديد الصافي، المهم أنك حين ترى البيت تحس أنه ليس ملكًا لأصحابه، ولكنه مستعار من الهيئة.
فكانت الأم تمدُّ "مرادًا" هذا بما ألقاه أبناء المخدومين من ثيابٍ وكُتب وحقائب مدرسية وخلافه، فلا يسألها عمَّا جلبته يداها من بقايا طعام الأغنياء، فقد كان عنه متعفِّفًا يشعر بالقرف من هذا الخليط الممزوج في كيسٍ واحد، وكان هذا من حظِّ "سلطان"، أما "نوال" الأخت الوحيدة، فكانت ساخطة على حياتها بكلِّ مظاهر الفقر التي تتحكم في ملامح دنياها، حتى "نفاثة الكيروسين" التي تسلِّطها أُمُّها على رأسها؛ لقتل الحشرات يوم الجمعة قبل الصلاة، وهي تجلس القرفصاء أمام المنزل، مجبرةً على هذه الطقوس العائلية في منظر يتمِّم لوحةً للفقر بديعةً، لا يستطيع رسَّام - مهما بلغ - أن يعبِّر بمثلها.
وكانت دائمًا تتوق وتتطلع إلى مستويات الطبقة المرفَّهة، فكانت تتعلق بكلِّ ما يُلْقى في قمامات منازلهم خلال طوافها خِصِّيصًا للبحث والتنقيب في قماماتهم العامرة، أو عندما تذهب مع أُمِّها؛ لتساعدها بعد أن مرضت من كدِّها المتواصل، وكان أكثر ما تتعلق به من أمورهم ما يتعلق بأمر الزينة والمظهر العام، وكم نالت من أخيها "مراد" حفلاتٍ من الضرب المبرِّح الذي تأبى آثاره أن تغادر جسمَها قبل أن توقِّع عليه ما يُبقي الذكرى حيَّةً في فؤادها الصغير، وما لبثت هذه العصفورة أن وجدت منفذًا في باب القفص تمثَّلَ في هذه المرأة الجميلة المظهر، والتي كانت تشير إليها دائمًا من نافذة "القطار" حينما تهدأ سرعته ليدخل المحطة، فتردُّ عليها "نوال" التحية وهي مبتهجة، وتظل تحكي أمامهم وتتفاخر أن هناك من بنات الأكابر من يشير إليها حُبًّا واحترامًا.
وذات يومٍ أشارت إليها السيدة الغريبة: أن قابليني على المحطة، فكان ما كان بينهما من عزفٍ على أوتار هذا القلب الغض، فأعطتها من الحنان والاهتمام الصناعي ما يكفيها لتخلع أسرتها وترميها في زاوية النسيان ولو إلى حين، مدعمةً ذلك بهدايا لم يخطر على بال الصغيرة الساذجة أن تراها رأْيَ العين أبدًا.
وتكرَّرَ الأمر دون عِلْمِ الأهل بعدما كانت "نوال" تخفي ما تأخذه في مخبئها الخاص، الذي صنعته من صفيحة سمنٍ قديمة دفنتها خلف البيت، وسط كومة من حديد العهدة الخاص بالهيئة؛ لتخلو بكنزها كلَّ ليلٍ بعد نوم الجميع، فتستمتع بالنظر إلى أدوات الزينة والملابس الفاخرة، وتتخيَّل نفسها أميرة في قصر تستمتع بهذا كله.
وجاء وقت الطيران من عُشها - أو قفصها كما كانت تسميه - بعد أن لامتها السيدة على عدم التمتُّع بما تهديها من متاع، فأخبرتها "نوال" أن ذلك يسبب لها الأذى، وبيَّنت لها بعض توقيعات سِياط أخيها على جسدها، وهنا كان الفصل الأخير ليخرج الظُفُر من اللحم، فأقنعتها بالرحيل معها والعيش في "فِيلَّتِها"، فما رأوها بعد ذلك ولا سمعوا عنها خبرًا، وكُفَّ بصرُ أُمِّها حُزنًا عليها، ومات أبوها بجلطة، وأصيب "مراد" باكتئابٍ بعد رحلة بحثٍ فاشلة دامت سنتين رَسَبَ فيهما دراسيًّا؛ لانشغاله بأمر أخته الوحيدة، وكان مما أثَّر فيه فقدانه النصير حتى من أخيه المثلج "سلطان" الذي كان تعليقه الوحيد: "راحت في ستين مصيبة، قالوا: القردة قطعت كفَّها، ما قطعت إلا بنفسها".
وَلَمْلَمَ "مراد" أشلاء نفسه وأشلاء أسرته، التي لم يبقَ منها إلا أُمُّه الضريرة، وأخوه "سلطان" الذي هرب من البيت مراتٍ؛ ليمارس هوايته في التسوُّل، فقد كان يستمتع بخداع المحسنين المتأثرين بما يسمعون من عَرْضه لمأساة مرضه الكاذب، وبما أعدَّه لهم من منظرٍ بائس يقطع نياط قلب الكافر الذي لا يعرف الرحمة، فكان "مراد" يردُّه إلى عقله ويقنعه بالصعود إلى القطار بطاولة الحلويَّات؛ لينالَ قِرشَه بشرف، فيُظْهر "سلطان" له الطاعة، وما أن ينتقل القطار به إلى حيث لا يراه "مراد"، حتى يُخرج عدة الشغل - كما كان يُسمِّيها - ويمارس عمله المحبَّب الذي يدرّ عليه المتعة المادية والمعنوية.
ومرت الأيام وحصل "مراد" على "ليسانس" الحقوق، وتمكَّن به من العمل في قلم المحضرين بالمحكمة، فكان لا بد له من وقفة مع أخيه، إما بالوفاق وإما بالفراق، فجمع له نفرًا من أكابر الحيِّ وخيَّره بين أن يعمل عملاً شريفًا ويتزوج ويستقر، أو يفارقه ويعمل ما يشاء، شَريطة أن يرحلَ عن البلدة، ولا يذكر أمام الناس أنه أخوه، فاختار "سلطان" الأولى، وحكم له الناس على أخيه "مراد" مقابل ذلك أن يخطبَ له لعلَّه يؤوب إلى عقله، فوافق "مراد"، فساعده أولاً على أن يحصلَ على شهادة محو الأُميَّة، ثم الالتحاق بوظيفة عامل في المحكمة، ثم اصطحب أمه؛ ليخطب له ابنة الجيران الذين كانوا يشبهونهم في كثيرٍ من الأحوال المادية والاجتماعية، إلا أنهم ليس لديهم "سلطان"، فوافقوا بعد أن سمعوا بتوبة "سلطان" وعمله الجديد.
وفي عيد الأضحى كان الفراق بين الأخوين؛ حيث لم يطق "سلطان" صبرًا على تَرْك الموسم الذي يدر عليه ما تدره الوظيفة في عام، فتنكر جيِّدًا واستأجر كُرسيًّا متحركًا، وربط وجهه وأطرافه الأربعة، وتصنَّع الإصابة بالجذام وأمراضٍ أخرى لا حصر لها، واستقدم معه صبيًّا من صبيانه في المهنة؛ ليكلِّم الناس عنه، وانتقل بكلِّ ذلك إلى محافظةٍ أخرى، وظل يجمع من الرائح والغادي، ثم حدَّثته نفسه أن يذهب إلى المقابر عملاً بما سمعه من أحد المعلمين في المهنة: من أن أصحاب البِدع أكثر الناس إنفاقًا في سبيل بدعتهم، فأوقعه شيطانه فيما لا يُحمد؛ حيث كانت خطيبته تزور قبر جدِّها المدفون بهذه المحافظة، ومعها أمها وبعض أخوالها، وكان "سلطان" متألقًا في هذه اللحظة هو وصبيُّه، وهو يعرض للناس ما أصابه من سوء، والأموال تتدفق عليه من كلِّ حدبٍ و صوب، وخطيبته وأمها تحدقان في وجهه في دهشةٍ حتى تيقنتا منه، فقامت الأم بنزع الشاش من على وجهه وهي تقول:
جذام وكَبِد وسرطان! فَضَحَكَ الله كما فضحتنا، وأصابك بما زعمت وكذبت، وقامت الخطيبة بخلع خاتمها وما أهداه إليها من زينة، وألقته في وجهه باكيةً، فكانت هذه "صفارة" البداية؛ لينهال الناس عليه وعلى صبيِّه ضربًا وركلاً، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذوا ما معه من مال، واشتروا بها مصابيح كهربائية لأعمدة المقابر.
وكان الفصال النكد بين الأخوين، فخرج "سلطان" إلى المدينة المجاورة تاركاً أمه ووظيفته وبيته، وكل ما يثقل عليه من القِيَم التي مثَّلت له قيودًا تحدّه، واستأجر حجرةً نائية كانت منطلقه إلى دنيا التسوُّل أول النهار، ومأواه بعد عودته محمَّلاً بغلة اليوم، فيقضي أسعد أوقاته في تصنيف ما أفاء عليه المحسنون من خيرات الله.
ولم يطق "مراد" ما كان يسمعه من رؤسائه عن أخيه، وتعجّبهم من تركه العمل الشريف؛ ليمارس هذا العار، فأخذ يتحسس أخباره حتى عَرَف مكانه وأمره، فكان يرسل إليه سرًّا مع بعض أبناء مهنته إنذارات الفصل من الوظيفة، مع خطابات يستحلفه فيها أن يكفَّ عن فضائحه، فكان "سلطان" يردُّ عليها بردٍّ واحد: "حين أتمُّ تجْهيز الخميرة، سترى ما لم تحلم به"، ووقع سلطان في حبِّ فتاة مِن بنات المهنة تخصَّصت في التسوُّل في المواصلات، فتزوجها وأقامت معه في الحجرة، وأنجب منها ذريةًً كان يستعين بهم في استدرار عطف المحسنين.
ومرَّت سنوات كاد الناس فيها أن ينسوا أمرَ "سلطان" حتى عاد بأسرته مفجِّرًا قنبلته التي لم تدع نسمة في المدينة إلا شغلتها بأمره، فقد فوجئ الناس بسلطان يشتري ثلاث قطع من أراضي البناء ذات الموقع المميَّز، ويشرع في بنائها في نفس الوقت، فاختلفوا في أمره اختلاف بني إسرائيل في "قارون"، وعزم بعضهم على رفع الشكاوى للمحامي العام؛ للتحقيق معه بتهمة الكَسْب غير المشروع، ولكنه تصرَّف بسرعة البرق، وأنهى تشطيبات ثلاثة من الشقق، وجعلها استراحاتٍ لمن يمكنهم صد أيِّ هجومٍ محتمل عليه.
ولم يغادر "سلطان" هيئته التي كان عليها، بل ظلَّ حافيًا كما هو متنقلاً في شوارع البلدة بثوبه الذي بلغ في قِدَمِه ما بلغته الآثار القديمة المنتشرة بالقُرب من بلده، ولم يتغيَّر الحال إلا بعد ولاداتٍ عديدة لعماراته، والولادة في قاموس "سلطان" معناها أن يبني من ريع العقارات عمارة جديدة، ولم يكن سبب تغيُّر مظهره؛ لأنه شبع من المال، ولكن أولاده الذين بلغوا رشدهم اجتمعوا وهددوه بالحَجْر عليه إن لم يحسِّن مظهره بما يليق برجل يمتلك ثلث عمارات الحي، وما خفي كان أعظم، وكانت هذه هي المرحلة الثانية بعدما أجبروه من قبل على تخصيص شقَّة لهم، وألا يقيموا في سكن البواب بإحدى عماراته؛ توفيرًا لإيجار الشقَّة، وكان كلُّ ذلك بعد انتشار فضيحة "سلطان العمائر"؛ حيث تناقل الناس خبر تصدُّق إحدى الساكنات الجدد عليه حين طرق الباب ليحصل منهم الإيجار، فظنته مسكينًا فذهبت في الحال وأحضرت له طعامًا، فلم يرفض وجلس يأكل على السُّلم أمام باب الشقة، حتى حضر زوجها وأعطاه الإيجار ونهرها قائلاً: أتتصدقين على رجلٍ يقتطع ثلث دخلنا شهريًّا؟!
وحزن "سلطان" للإجراءات الجديدة التي عكَّرت صفو حياته، ولم يقم مع زوجته وأولاده في الشقَّة، وتطور الأمر بعد زواج ولدين من أولاده، وأقام كلٌّ منهما في شقَّة، فحزن حزنًا شديدًا، وأقام بمفرده في حجرة فوق سطح العمارة، وصنع لنفسه الدنيا التي يريدها، فاشترى عدة أشخاص "بلاستيك" كالتي تستخدم في العرض وألبسها ثيابًا فاخرة، وأحضر عدَّة الشُّغل، وتنكَّر كما كان يفعل سابقًا، وأخذ يطوف على الأشخاص المحسنين الصناعيين، يسألهم ويبذل أقصى جهده في الإلحاح والخداع والتذلل، ثم يأخذ من أيديهم الحسنات التي وضعها بيده من قبل.
وازدادت حالته سوءًا بعدما فرض أولاده عليه أمورًا أخرى لم تكن في الحُسبان؛ إذ أصرّوا على الاستمتاع بهذه الثروة الطائلة المحصلة من تأجير مئات الوحدات السكنية، فاشترى كلٌّ منهم سيارة، إلى جانب تقدمهم للدراسة في الجامعات الخاصة؛ للحصول على مؤهلات تليق بهم، فأدى كلُّ ذلك إلى إصابة "سلطان" بشللٍ نصفي لم يستطع معه متابعة مملكته العقارية، فوكَّل في ذلك ولدَه الأكبر.
واقتربت ساعة الرحيل ودخل "سلطان" في مراحل الاحتضار، فكان لا يفيق من غيبوبته إلا ليسأل عن عماراته وهل ولدت؟ فيضحك أبناؤه ساخرين ولا يجيبونه، فقد شغلوا بما هو أهم، فراحوا يقسمون التركة في انتظار رحيل الأب الذي ظل يهذي حتى الموت، لا يجد من يلقي له بالاً.
وغادر "سلطان العمائر" الدنيا بما فيها، وسارع أولاده بإجراءات الدفن؛ ليصعقوا بمفاجأةٍ أعدَّها لهم أبوهم المحمول على الأكتاف، لقد وجدوا أبناء عمومتهم متراصين أمام قبر العائلة؛ ليمنعوا دفن "سلطان" الذي باع نصيبه فيها من قبل لأخيه الوحيد "مراد" بعد حوار طويل أهانه فيه وعايره أن وظيفته لم تنفعه بشيءٍ، وأنه ما زال يسكن في شقَّة بالإيجار، وأنه لا يشرِّفه أن يُدْفن معه، وأنه سيشتري قبرًا له ولأولاده، وكان كلُّ ذلك بسبب مطالبة "مراد" له بالمشاركة في تجديد بناء المقبرة التي تهدَّمت، فضاق "سلطان" به ذرعًا؛ حيث صادف ذلك ولادة إحدى عماراته الجديدة، فكان ما كان ثم أَلْهَتْه الولادات المتكررة لعماراته عن مسألة شراء القبر.
سادت لحظات من الصمت الرهيب تقلبت فيها نظرات المشيِّعين بين النعش الذي ينتظر تقرير المصير، وبين أبناء العمومة الذين لم تتصافح أَكُفُّهم من قبل، حتى قطع أحد أبناء "سلطان" الصمت بعبارةٍ كانت الشرارة التي أشعلت القتال بين الفريقين، فقد صاح وهو يسحب الفأس من يد "التُّرَبي" ليبدأ في فتح باب القبر:
إننا لا نعلم شيئًا عن هذا البيع، ونحن لا نستبعد أن يكون مزوَّرًا أو "مفبركًا"، وما أسهل ذلك على أبيكم بحكم عمله وخبرته.
وانفجر الخُرَّاج العائلي ليسمع أهل المقابر ما يسوءهم من بذاءات أهل الدنيا تطاردهم حتى في قبورهم، واشتبكت الأيدي والأجساد، وتناثرت الدماء على المقابر، وهاج الناس وماجوا، محاولين منع المهزلة، حتى حضرت سيارتي الشرطة والإسعاف؛ لتأخذ كلٌّ منهما نصيبها.
وبقي نعش "سلطان" فريدًا غريبًا وحوله المشيِّعون لا يدرون ما يفعلون، حتى صاح شيخٌ كبير: أتتركون الرجل هكذا؟! ادفنوه في مقابر الصدقة، فردَّ عليه آخر ضاربًا كَفًّا بكف:
سبحان الله! دنيا ما لها أمان؛ "سلطان العمائر" يدفن في مقابر الصدقة! فردَّ عليه الشيخ بابتسامةٍ حزينةٍ:
هذا خير له من أن يصبح سلطانًا بلا قبر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق